- سيف الحموري - الكويت - الخميس 6 أكتوبر 2022 08:48 مساءً - الجاحظ والدميري وثّقا عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات واستغرقا في البحث عن كل حيوان وخصوصاً الأسد
- الأسد ذُكر كثيراً في الأدب المكتوب للأطفال والحكايات المقدمة لهم وشوقي ختم به ديوانه بخمس مقطوعات توثّق التواضع والعفو عند المقدرة
- الشاعر محمد المشاري أحد رجال الديبلوماسية الكويتية كتب مقطوعة «الليث وصاحباه» يحكي قسمة الثعلب الذكية المنجية له من بطش الأسد
تختلف هذه الحلقة من مسامراتنا عن غيرها من الحلقات، فهي تتحدث عن حيوان من حيوانات الغابة؛ شديد البطش يهابه الناس، ويخشون عُنفه. هذا الحيوان هو الأسد الذي أُطلق عليه لقب «ملك الغابة»، لأنه كان مهابا عند الناس جميعا وعند الحيوانات الأخرى كذلك. والأسد نوع من السباع، قال محمد بن مكرم ابن منظور في كتابه «لسان العرب»:
«ولفظ السَّبُع يقع على مَالَه ناب من السباع، وهو يعدو على الناس والدواب فيفترسها، مثل الأسد والذئب والنمر وما أشبهها. وسَمَّوا الأرض التي تكثر فها السباع: مَسْبَعَة».
وسُميت السباع أيضا باسم آخر هو: الوحوش، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مشاهد يوم القيامة، فكان منها مشهدُ حشر الوحوش، وذلك في قوله عز وجل في أول سورة التكوير:
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَت، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَت، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت). إلى آخر هذه السورة الكريمة.
ويمكن الرجوع إلى تفسير هذه الأيات في كتاب «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير، ج4 ص476.
أما قوله تعالى: (وإذا الوحوش حُشرت) فقد جاء الفصل في معناه في كتاب التفسير المذكور، وهو أن حُشِرتْ تعني: جُمعت، وذلك في يوم القيامة.
وفي سورة المدثّر من كتاب الله العظيم بيان حال المؤمنين والمكذبين بالدين حيث يعترف أهل النار بأنهم لم يكونوا مؤمنين حقا، وكانوا يخوضون مع الخائضين، وَيُكَذِّبُونَ بيوم الدين حتى أتاهم اليقين فصاروا وقوداً للنار.
إنهم كانوا كحمير الوحش الهاربة من أسد مخيف لا تستطيع له دفعا، بينما ما كان قد عرضه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا الهدى والنور، ولكنهم فروا منه فرارهم من الأسد (القسورة). ولذا فإن ما جاء في هذه السورة الكريمة من الآيات رقم 49 و50 و51 تنص على قوله تعالى:
(فمالهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حُمُرٌ مستنفرة، فّرت من قسورة)
وصدق الله العظيم.
ومما ورد فيه ذكر الأسد في الاخبار ذات الاتصال بما جرى في بداية الدعوة إلى الإسلام حين صَدَعَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلي:
تلا الرسول الكريم على جَمْعٍ من قريش الآية الكريمة: (والنجم إذا هوى) فقال عتبة ابن أبي لهب عن نفسه (كفرتُ برب النجم) فقال الرسول الكريم: «اللهم سلِّط عليه كلْبا من كِلابك ينهشه».
فخرج عتبة مع بعض أصحابه – فيما بعد – ضمن قافلة إلى الشام حتى إذا كانوا بالزرقاء (المكان المعروف الآن في الأردن) سمعوا زئير أسد، فجعل عتبة يرتعد خوفا، فقال له أصحابه: من أيِّ شيء ترتعد؟ فوالله ما نحن وأنت إلا سواء، فقال: إن محمداً دعا عليَّ، ووالله ما اظَلَّت السماء من ذي لهجة أصدق من محمد. ثم وضعوا عشاءهم، فلم يشاركهم، ولم يُدْخِلْ يده فيه، ثم جاء وقت النوم، فحاطوا أنفسهم بمتاعهم، وجعلوا عتبة بينهم وناموا، فجاء الأسد يشم كل واحد منهم حتى انتهى إليه، فضغطه ضغطه واحدة خرجت بها روحه، وقد سمعه أصحابه يقول وهو في آخر رمق: ألم أقل لكم إن محمداً أصدقُ الناس. كما ورد في الحديث الشريف ما يدل على شراسة الأسد، وحرص الناس على الهروب من أمامه خوفا منه، فجاء في حديث نهايته قوله صلى الله عليه وسلم: «وَفِرّ من المجذوم فِرارك من الأسد».
***
للأسد ذكر في كُتُب التراث العربي، وبخاصة منها ما اختص بذكر الحيوان. ومن أهم هذه الكتب ثلاثة كانت لها شُهْرَة واسعة في هذا الباب، نجمل الحديث عنها فيما يلي: 1- كتاب الحيوان، وهو أكبر
وأوسع كتاب في هذا الموضوع، كتبه عمرو بن بحر الجاحظ، وهو مطبوع في سبعة مجلدات في سنة 1965م بتحقيق شيخي الأستاذ عبدالسلام محمد هارون. ويكفي أن نعرف كتابا صادراً من تحقيقه؛ حتى نعرف مدى إتقان التحقيق والطبع، وذلك ما تعودنا عليه في كل إنتاجه. رحمه الله.
بدأ الاستاذ عمله بوضع مقدمه شاملة عن الكتاب وعن مؤلفه، وأوضح طريقة العمل الذي قام به، والنسخ الخطية التي اعتمد عليها، في التحقيق، ثم بدأ في عرض الكتاب، وفق نص المؤلف. وللجاحظ كتب كثيرة متنوعة الموضوعات، ومنها ما يأخذ فيه بالجد، ومنها ما يهتم فيه بالطرافة، وما تحلو للناس قراءته من المُلَح والنوادر.
ومن هذا النوع بعض ما ذكره من كتبه في مقدمة كتاب الحيوان، ومثالها: كتاب حيَل اللصوص، وكتاب غِش الصناعات، وكتاب البجلاء، وكتاب الزرع والنخيل والزيتون والأعناب، وكتاب الصرجاء والهجناء، وغير ذلك كثير....
ورجل يهتم بكل هذه الموضوعات، ويحتج لنفسه حين يعترض عليه معترض مُدَّعيا تفاهة تلك الاختيارات، فيرى أن ما قد قام بتأليفه في أي موضوع تَطَرَّق إليه إنما هو تأليف مفيد لابد فيه من نفع. وهذا يدلنا على أنه يرى أن كتابه «الحيوان» الذي قدم له بهذا التقديم إنما هو كتاب مهم وشامل لكل ما يحتاج المرء إلى معرفته عن هذه المخلوقات. وكان حديث الجاحظ شاملا لجميع أنواع الحيوانات، بل إنه لم ينس الطير فكتب عنه وعن أنواعه وأحواله. ولم يترك الحديث عن حيوان البحر فكتب عن الأسماك وأنواعها وأحجامها، ولم يغادر الحديث عن الوحوش الضواري كالأسد والذئب والنمر حتى كتب عن الزواحف والحشرات. وخلاصة القول أن هذا الكتاب جامع لكل ما يحتاج القارئ إليه لإدراك عالم الحيوان الواسع. أما التحقيق فقد كان على مستوى عال متوقَّع من المحقق، قَرَّبَ الكتاب إلى قارئه بِحُسْنِ الترتيب وبالهواش والتحقيقات، والدلالة على المراجع الأخري مما زاد في قيمة ما انجزه صاحب الكتاب الاصيل. تحدث الجاحظ في كتاب «الحيوان» عن الأسد حديثا طويلا مبثوثا في جميع جوانب الكتاب، ولم يترك جانبا يتعلق بهذا الحيوان دون ان يذكره ومن ذلك خلاصته.
«إن الأسد هو سيد السباع، وإنَّه وحشي، شبيهُ بالكلب، له مخالب تختفي بما يشبه الأكمام، وله أنياب مُخِيفَةُ، وعُنُقُ من عظم واحد، جِلدُه واسع، وعيناهُ حمراوان، وهو أسرعُ الحيوان جرياً، وأكله مُقتصر على اللحوم، ولذته في لعق الدماء، ولذا فإنه لا يُقبلُ إلا على أكل ما يفترسه لنفسه، له عضة مخيفة وقاتله، وصوت شديد مزلزل.
2- كتاب: حياة الحيوان الكبرى، وهو من تأليف الشيخ كمال الدين الدميري، وقد طُبع في مجلدين خلال سنة 1954م، وجاء في هامِشِهِ كتاب: «عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات» الذي ألفه زكريا بن محمد القزويني.
بدأ الدميري كتابه ببيان سبب تأليفه له، وقد أوضح أن ذلك كان قد جرى لاختلاف تم في زمنه حول بعض الحيوانات، دعاه إلى الاستغراق في البحث، وتتبع كل ما يتصل بها. وخرج من بحثه هذا بكتابه الذي نتحدث عنه هنا. وعلى خلاف كتاب الجاحظ فإن هذا الكتاب غير محقق، بل هو مطبوع على عِلاَّته، وليست له مقدمات توضيحيه، ولا هوامش شارحة. ويماثله في كل هذا كتاب القزويني المطبوع على هامشه. اتبع الدميري في تأليفه الحروف الأبجدية بترتيبها المألوف لكي يُقدم ما أراد أن يذكره عن الحيوانات التي تضمنها الكتاب، ولذا فإن القارئ يستطيع أن يصل بسهولة إلى ما يريد أن يعرفه عن أي حيوان بمجرد الرجوع إلى الفهرس الملحق بآخر الكتاب، وَوِفْقَ الحرف الأول من اسم الحيوان المطلوب العلم به يستطيع أن يتعرف موضوع ذلك، غير أن المؤلف خرج عن موضوع الكتاب اعتباراً من الصفحة رقم 47 إلى الصفحة رقم 104 من الجزء الأول، إذ نراه قد خصص هذه الصفحات لذكر تاريخ الدولة الإسلامية منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهد الخليفة العباسي المستكفي بالله ( ه م )، وهذا أمر خارج عن منهج الكتاب.
هذا هو ما يتعلق بما كتبه الدميري، أما كتاب ابن الوردي المطبوع على الهامش، فليس خاصا بالحيوان وإن كان قد تحدث في قسم كبير منه عن هذه المخلوقات، ونحن نكتفي بهذا.
3- نذكر هنا كتابا ثالثا هو: «المستطرف في كل فن مُستظرف» لمحمد بن احمد الأبشيهي المتوفى في سنة 850 هـ (1449م) وهو وإن لم يكن كتابا مختصا بالحيوان كالكتابين السابق ذكرهما؛ فإنه أفرد بابا جعله بعنوان: «في ذكر الدواب والوحوش والطير والهوام والحشرات وما اشبه ذلك».
وقد ذكر الأسد في هذا الباب ضمن حيوانات أخرى، فوصفه وصفا تاما، وبين كثيراً من الأمور المتعلقة بأسلوب معيشته، وكل ذلك فيما لا يخرج عما ذُكِرَ في الكتابين السابقين.
***
ونتساءل بعد ل ذلك: هل للأسد ذكر في الشعر العربي؟ وسوف تكون الإجابة بنعم، لأننا وجدنا ما يدل على ذلك وعلى الأخص في النموذجين اللذين سوف نذكرهما أدناه.
- أما النموذج الأول وهو نموذج قديم نسبياً، فهو ذكر الشاعر الذائع الصيت ابو الطيب المتنبي للأسد في قصيدة من أجمل وأقوى قصائده، هي التي قالها في أحد ممدوحيه، وهو بدر بن عمار، وقد جاء في ديوان الشاعر أن هذا الممدوح قد علم بوجود أسد في الجوار يؤذي الناس في أنفسهم وفي ممتلكاتهم من المواشي، فخرج له، ولكن الأسد هرب من لقائه. ثم علم بوجود أسد آخر كان قد افترس بقرة وأكل قطعا كثيرة من لحمها، مما أثقله وأعجزه عن الفرار، وعندما رأى الأسد هذا الفارس قادماً إليه وثب إلى مؤخرة فرسه مما أعجله عن أن يَسْتَلَّ سيفه من غمِدِه، فضرب الفارس الأسد بالسوط إلى أن أحاط به الجيش المرافق. ومما قاله المتنبي في ذلك:
أَمُعَفَّر الليث الهزبر بسوطه
لمن ادَّخرت الصارم المسلولا
وقعت على الأردن فيه بليَّةٌ
نُضدت بها هام الرفاق تـُلـولا
وردٌ إذا ورد البحيرة شارباً
ورد الفراتَ زئـيـرةُ والـنيـلا
مُتَخضِّب بدم الفوارس لابس
في غيـلـه من لبدتـيـه غيـلا
(عفَّرَهُ: مرَّغَهُ بالتراب، الهزبر: الاسد، الصارم: السيف القاطع، قوله: وقعت على الأردن دليل على مكان الحادث، الورد: الأسد له لون مائل إلى الحمرة، والبحيرة: هي بحيرة طبرية. اللبدة: الشعر المتجمَّع على كتفيه، الغيل: شجر الغابة الكثيف حيث يعيش الأسد).ثم يصف المتنبي الأسد فيقول: إن عينيه تَشِعَّان في الليل كالنار الموقودة، وأنه يعيش وحيداً كأنه راهب، ولكنه لا يعرف الحلال من الحرام. ومضى الشاعر في وصف المعركة التي دارت بين الأسد والبطل، وفي المقارنة بينهما، فقال:
سَبَقَ التقائِكهُ بوثبـة هاجـم
لو لم تهاجِمْهُ لجازك ميـلا
خذلته قوَّتُهُ وقد كافَحـتّـهُ
فاستنصر التسليم والتجديـلا
(سبق التقاءك: اعجلك، جازك: تجاوزك. خذلته قوته: خانته، ولم تُفدهُ، فسلَّم لك وسقط أمامك،التجديل: السُّقوط).
ثم ذكر الأسد الأول الهارب بقوله:
سمع ابن عمته به وبحالـِهِ
فنجا يُهرولُ أمس منك مَهُولا
وأمــر مما فر منه فِرارُهُ
وكقتلـه أن لا يمـوت قتيـلا
إلى نهاية القصيدة وهي طويلة يكفينا ما اخذناهُ منها. وقبل الانتقال إلى بيان النموذج الثاني، فإن من المناسب أنه نذكَّر هنا بأبيات قيلت في الحجاج بن يوسف الثقفي التي وُجِّهتْ إليه على سبيل الهجاء إثر خروجه من إحدى المعارك العنيفة التي كان يخوضها ضد الخوارج الذين كان لهم نشاطُ يعادي الدولة في ذلك الوقت،وقد ضُرِبَ المثل بالأسد في هذه الأبيات وقورنت قوته بضعف النعامة. يقول الشاعر معرضا بالحجاج:
أسد عليَّ وفي الحروب نعامـةٌ
فَتْخاءُ تنفر من صفير الصافِـرِ
هلَّا برزتَ إلى غزالةَ في الوغَىَ
بل كان قلبكَ في مخالبِ طائرِ
(فتخاء: لينة الجناحين. غزالة: هي غزالة الحرورية، وكانت زعيمة في جماعة الحروريين من الخوارج). أما النموذج الثاني، فهو ما سوف يرد في الفصل الآتي:
***
ذُكِرَ الأسد كثيرا في الأدب المكتوب للأطفال، فهو في الحكايات التي تقدم لهم، وفي الأشعار التي تتضمنها الأناشيد والمحفوظات التي يدرسونها في مدارسهم. ولعل من أهم ما تمكن الإشارة اليه ما كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي في هذا المجال، وجعله في نهاية ديوانه: الشوقيات، تحت عنوان: الحكايات، وقد وجدنا فيه خمس مقطوعات تحدث فيها الشاعر عن الأسد، وذلك في أشكال مُتَعَدَّدة، أمامنا منها مقطوعة: «الأسد والضفدع»، وهي ذات هدف أراد أمير الشعراء أن يُثْبِتَهُ في أذهان الأطفال حتى يكون ماثلا لهم عندما يكبرون، وهو أن يتمثلوا دائماً: التواضع والعفو عند المقدرة. ذلك أن ملك الغابة الأسد ضاق ذرعاً بنقيق ضفدع كانت تَنقُّ ليلا إلى جوار عرينه، فمر عليه الليل وهو يعاني من السهر، وعندما أصبح الصباح، وجلس في مجلس حُكْمِهِ أمر بإحضار هذه المزعجة لكي يعاقبها، فأحضرها جنوده، وقالوا له: ها هي ذي فاعمل بها ما تريد جزاء إيذائها للأذن السلطانية. ولكن وزيرہ (الفيل) ان حكيما، فأدلى برأيه في هذا قائلا: أيها الملك إن من كان في قدرتك، وعزك لا يمكن أن يؤثر فيه نقيق ضفدع بائسة مثل هذه.
فقرر الأسد العفو عنها، ومنحها الأمان، وزاد على ذلك بأن جادَ لها بمستنقع ماءٍ تعيش فيه. ومن هذا النص:
قالوا اِستَوى اللَيثُ عَلى عَرشِهِ
فَجيءَ في المَجلِسِ بِالضِفـدَعِ
وَقيلَ لِلسُلطــانِ هَذي الَّتــي
بِالأَمــسِ آذَت عـالِيَ المسمَعِ
تُنَـقنِـــقُ الدَهـرَ بِلا عِـلّـَةٍ
وَتَــدَّعي في الماءِ ما تَدَّعـي
فَانظُر إِلَيكَ الأَمرُ في ذَنبِـهـتا
وَمـــُر نُعَلِّقُها مِـنَ الأَربَـــعِ
فَنَهَــضَ الفيــلُ وَزيرُ العـُلا
وَقـــالَ يا ذا الشَرَفِ الأَرفَعِ
لا خَيرَ في المـتُلكِ وَفي عِــزِّهِ
إِن ضاقَ جاهُ اللَيثِ بِالضِفـدَعِ
فـَكَـتَبَ اللَيـثُ أَمــاناً لَها
وَزادَ أَن جــادَ بِمُســتَنقَـعِ
وأتى إلينا شاعر كويتي بِمثلِ هذا الذي قدمه – من قبل- أحمد شوقي، فكتب عدة مقطوعات خصَّ بها الصغار، وكانت كلها ذات طابع قصصي جميل، وقد نشرها مركز البحوث والدراسات الكويتية في طبعات أنيقة محلَّاة بالصور الملوَّنة التي تحبب الصغار في قراءتها هذا الشاعر هو: محمد أحمد المشاري الذي كان من أبرز شعرائنا،وكانت له صلات طيبة مع كثيرين من ابناء المجتمع الكويتي، وبخاصة من لهم اهتمام بالأدب والشعر، ولذا فقد كان وثيق الصلة بالأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري، وله معه تبادل في الأشعار، تجد آثاره في ديوان لٍّ منها.
كان الشاعر محمد المشاري من رجال الديبلوماسية الكويتية، وقد تَقَلَّدَ عدة مناصب في الخارج، وفي ديوان وزارة الخارجية هنا. وتوفي – رحمه الله - في اليوم الثالث والعشرين من شهر يونيو لسنة 2000 م. ولكن آثاره المكتوبة لاتزال تُحيي ذكره، كما أَنَّ سمعته الطيبة، وخلقه القديم،وحسن تعامله مع جميع الناس مما يزيد بقاء هذا الذكر العاطر.
للشاعر ضمن المقطوعات التي كتبها للصغار مقطوعة بعنوان: «الليث وصاحباه» والليث - كما هو معروف - هو الأسد، أما صاحباه في هذه الأبيات فهما ذئبٌ وثعلب. وقد جرت للثلاثة حكاية رواها لنا الشاعر في عدة أبيات، فبيَّن لنا أن الثلاثة خرجوا إلى الغابة، وعادوا بصيد ثمين مُكَوَّنٍ من حمارة وظبية و أرنب. وجلسوا لهذا الأمر. فقال الأسد للذئب: قم فاقسم الصيد فقال الذئب: لك الحمار، ولي الغزال، وللثعلب الأرنب. فلم يكد الذئب أن ينهي كلامه حتى نال من الأسد صفعة أسالت دمه. ثم التفت إلى الثعلب وقال له: اقسم انت. فرد الثعلب قائلا: الحمار لغدائك، والغزال لعشائك، أما الأرنب فهو لفطورك. فَسُرَّ الأسد بهذه القسمة، وابتسم، ثم توجه إلى الثعلب سائلا:
من علمك هذه القسمة؟ فقال الثعلب دون تردد: لقد علمني إياها هذا الدم المسكوب. وتبدأ المقطوعة هكذا:
في غابة كثيـفة الأشجــار
مـليئة بالوحشِ والأطيـارِ
قد خرج الليث العظيم الشَّان
يصحبُهُ في الصيدِ صاحبـانِ
إلى أن يقول:
فابـتسـم الهزبرُ في انشراحِ
وقـل حكـم عـادلُ يا صـاحِ
لكن أفد بالله من ذا علّـَمَكْ
عدالة الحكم ومن ذا فهَّمك
فَقَهْقَهَ الثعلب حتى استلقـى
وقال: إني سوف أحْكي الصّدقا
الدرس قربي ها هنا مَـكْتوبُ
وأنهُ هذا الدمُ المسْــكـوبُ
***
وإضافة إلى ذلك فإننا نذكر كتابين آخرين اهتم مؤلفاهما بالكتابة عن الحيوان ولا سيما المتوحش منها كالأسد الذي هو موضوع حديثنا، وهذان الكتابان هما:
أ - كتاب المعاني الكبير، وهو يتضمن الأبيات التي فيها بعض المعاني التي يهم القارئ أن يعرف مدلولاتها ومعانيها. ومؤلف هذا الكتاب هو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وهو عالم كبير له عدة مؤلفات، منها هذا الكتاب، ومنها كتاب تأويل مشكل القرآن، وقد دَرَسْناَهُ في معهد الكويت الديني على محققه شيخنا الأستاذ السيد أحمد صقر، رحمه الله.
ولد ابن قتيبة في سنة 210 هـ ،وصار بعد أن استكمل دراسة العلم على أيدي علماء عصره إماما في النحو والتفسير والأدب. وقد توفي في سنة 270 هـ، رحمه الله. من الأمور التي أوردها في كتابه المذكور ما جاء في ص 187 من الجزء الأول تحت عنوان: «أبيات المعاني في الأسد» وهذا هو ما يعنينا هنا وما نودَّ طرحه. يبدأ هذا الفصل من كتاب ابن قتيبة بأن ينقل أبياتاً قالها الشاعر أبو زُبيد الطائي في الأسد وهي:
بِثِني القرينيــن له عيـال
بنوه و مُلَمعُ نَصَفُ ضَـرُوسُ
عُذِينَ بكل مُنعَفِرٍ سَــليـب
يُجاءبه وقد نسـل الدريـسُ
رآى بالمستوى سفراً وعيراً
أصيلا لاً وَجُنَّتــُهُ الغَمِـيسُ
تواصوا بالرُّى هجراً وقالوا
إذا ما ابْتَزَّ امركم النُّعـوش
فإياكم وهذا العرقُ واسمُـوا
لمومـاةٍ مأخذها ملـيـسُ
وَحُفُّوا بالرحال على المطايا
وضُمُّوا اكلَّ ذي قرني وكيسوا
بسمر كالمحـالق في فُتُوحٍ
يقيها قضَّة الارض الدخـيسُ
كأن بنحـره وبمنكبيـــه
عـبيراً بات تعــبؤهُ عَرُوسُ
ويبدو أن هذا الشاعر كان يعيش بالقرب من مسبعة أو أنَّ الشاعر تَعَرَّضَ في أسفارة إلى ويلات سببتها له الأسود ولذا فإننا نرى له ثلاث مقطوعات في وصف الأسد ونحن إذ نكتفي بما ذكرناه آنفا، فإننا نعود إلى شرح بعض ما غمض من الأبيات:
يقول الشاعر:
عند المرتفع القريب أسد له أشبال، وله أُنْثاَهُ اللبؤة التي لم تكن شابَّةً فَتِيةَّ وهو عضوض قويُّ الأنياب، وقد غذيت اسرة هذا الأسد بما يجلبه إليها ربُّها من صيد معفَّر بالتراب ممزق كأنه الثياب البالية، رأى على الأرض المنبسطة أمام المرتفع الذي هو فيه جماعة من المسافرين مع جمالهم في العشية وقد ستره الظلام عنهم.
وهؤلاء كانوا قد تواصوا منذ الصباح أن يحفظوا أنفسهم من الأسد الذي قد يُغير عليهم ليلا، وكانوا يقولون: ليكن الذي يحرسكم منتبها فلا يأخذه النعاس، وسيروا في أرض منبسطة لا مرتفعات فيها بحيث يظهر لكم كل ما هو أمامكم.
كونوا متنبهين أذكياء اجمعوا الرجال الرُّماة على المطايا التي يركبونها، وليمسكوا بحبال ابلهم، وأن يجهزوا سهامهم للإطلاق عند أول خطر. ولأن الخوف عليكم من الأسد وارد، فسوف يأتيكم بمخالبه السمراء، التي تشبه الأمواس من حيث جدَّتها، وهو يسير في استرخاء ولين تقيه من الحصى الصغار الذي ينتشر في طريقة أن له في كل كف ما يقيه ذلك. ثم يصف الأسد فيقول إن لونه أحمر يشبه الزعفران حين تُهَيَّؤُهُ العروس ليلة عرسها.
ب - أما الكتاب الثاني فهو كتاب «محاضرات الأُدباء، ومحاورات الشعراء والبُلغَاء» وهو من تأليف الحسين ابن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني. ويتكون الكتاب من مجلدين كبيرين ضما كثيراً مما يحتاج المرء إلى قراءته، فيجد فيه فوائد جمة، وقد قسمه المؤلف إلى فصول كل فصل تناول موضوعات، ومن هذه الفصول ما خص به الحيوانات، وقسمه إلى أقسام كان ذكر الأسد واحداً منها. وقد جاء بداية حديثة من هذا الوحش الكاسر أنه سيد السباع، وأن نسله قليل، ثم ذكر أنه ذكر في الشعر كثيراً، وأورد لذلك أمثله لشعراء منهم المتوكل الليثي، والمتنبي، والفرزدق، وإبراهيم بن هرمه.
ولكن من أهم ما قاله في شأن الأسد رواية تقول:
«استوصف عبد الملك ( بن مروان) أبا زبيد أَنْ يذكر الأسد نثراً بعد أن وصفه شعراً في الأبيات التي ذكرناها قبل قليل، فقال له: عينان حمراوان مثل وهج التَّنُّور، كأنما نُقِراَ بالمناقير، في عرض حجر، لونه ورد، وزئيرة رَعْد، هامته عظيمة، وجبهته شتيمة، نابُهُ عنيد، وشرُّهُ عتيد، إذا استدبرته: قلت افرع، وإذا استقبلته قلت أقرع، إذا مشي تبهنس، وإذا أتى الليل اعلنكس، تبوأ وتجسَّسْ».
فقال عبد الملك بن مروان ( الخليفة الأموي): حَسْبُكَ فقد وصفته بصفه خلْتُهُ يثب علي.
(تبهنس: سار متمهلا لكي يبحث عما يريد، اعلنكس: أظلم).
والراغب الأصفهاني من العلماء الذين برزوا في عصره في مجالي اللغة والمباحث الدينية، فله إضافة إلى هذا الكتاب خمسة كتب مطبوعة، وخمسة أخرى لا تزال مخطوطة ومن المطبوع كتابه: «المفردات في غريب القرآن».
توفي في سنة 502 هـ (1108م).
وقبل أن ننهي حديثنا عن هذين الكتابين فإن من المهم أن نشير إلى ما أشار إليه ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان»، وهو أن مما ذُكر في السيرة النبوية الشريفة مكان اسم حمراء الأسد. وهو على مسافة ثمانية أميال من المدينة المنورة، وقد انتهى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في طلب المشركين. وكان المسلمون قد عادوا من غزوة أحد مصابين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قدَّر ان محاربيه بالأمس سوف يعودون إذا رأوا أنهم انتصروا، فعزم على المسلمين الذين حضروا غزوة أحد أن يخرجوا لقتال عدوهم وخرج معهم على الرغم من إصابته، وأرسل طلائع أخبرته بأن الأعداء يتآمرون على العودة، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد التي وصفناها، وكان المسلمون يوقدون هناك في تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من مكان بعيد، وذهب صوت معسكرهم إلى كل مكان، فكبت الله سبحانه وتعالى عدوهم، وعاد المسلمون بقيادة الرسول الكريم إلى المدينة وكان ما صنعه المسلمون سببا في هروب أعدائهم. وأخيراً فإننا نلاحظ فيما مر بنا من أخبار متصلة بالأسد تكرر ذكر السباع بمختلف أنواعها في جزيرة العرب وما حولها من البلدان، وهذا ذكر مستفيض في كثير من الكتب التي يرجع إليها الباحثون وفي شعر الشعراء الأوائل. وفي كل ذلك ما يدل على تواجد هذه الأنواع من الحيوانات المتوحشة المفترسة في المناطق التي وردت أسماؤها عند ذكر الأحداث التي مرت بها. وقد جاء في الشعر الذي اخترناه والأخبار التي أوردناها أسماء أماكن هي الزرقاء والأردن وبحيرة طبرية.
وقد قيل إن الوحوش أو السباع لم تنقطع عن الجزيرة العربية وما حولها إلا بعد افتتاح قناة السويس بمصر في عهد حاكمها سعيد باشا منذ سنة 1859م حتى سنة 1869م. فصارت هذه القناة حاجزاً يحول دون انتقال هذه المخلوقات، فانقطعت عن أماكنها العربية بمرور الزمن. وقد يكون هذا صحيحاً.
اعتذار
أقدم اعتذاري إلى علامة الكويت الشيخ عبدالله الخلف الدحيان وهو في مقامه الأخير وإلى القراء الكرام بسبب الخطأ الذي حدث في آخر اسم الشيخ ضمن الحلقة رقم 21 من المسامرات. وهو خطأ لم تره العين في حينه ولكنَّ القلب رآه. رحم الله شيخنا وأثابه.