- سيف الحموري - الكويت - الأربعاء 28 سبتمبر 2022 07:06 مساءً - عبدالله الرحيان بشرّ تلميذه محمد الشايجي بقدوم ولده .. وعبدالعزيز حسين راسل أحمد البشر الرومي في تعبير عن الصلة بين الرجلين
- الرسائل توثق ما دار بين الشاعرين داود الجراح وجاسم النصرالله وتحوي فوائد أدبية جمة وأشعاراً رائعة بعضها مختار والآخر من نظمهما
كانت الرسائل هي الوسيلة الوحيدة للتواصل عن بُعد في الزمن الماضي، لذا فقد كانت المدارس الأهلية القديمة عندنا تهتم بتعليم الأولاد أصول كتابة الرسالة توجيها وردا. وذلك التعليم يبدأ بعد أن يقطع التلميذ مرحلة لا بأس بها في قراءة القرآن الكريم، وفي الكتابة والقراءة، وذلك في حدود الظروف المتاحة آنذاك، بحيث تتكون عندہ ملكة الكتابة عندما يتطلب الأمر منه ذلك.
كان الاهتمام بكتابة الرسائل ناجما عن الرغبة في تمكين الأولاد من أداء وسيلة التواصل الأساسية. ولكي يتاح لهم سبيل العمل لدى التجار الذين يتم عمل أكثرهم عن طريق المراسلات، فإذا تعود هؤلاء التلاميذ على طريقة كتابة الرسالة، وكذلك طريقة الرد عليها، فقد سهل عليهم الحصول على الوظائف التي يتيحها التجار لأمثالهم، ووجدوا مجال العمل الذي يعود عليهم بالنفع المادي الذي تكون أسرهم في حاجة إليه.
وقد تخصص أناس في خارج نطاق هذه المدارس بتعليم من يشاء الإلمام بطرق كتابة الرسائل من كبار السن الذين هم خارج مرحلة الدراسة المعتادة كما هو الحال مع الصغار.
فكان هؤلاء يعلمون من يشاء طرق وأساليب كتابة الرسائل والرد عليها في مختلف الموضوعات التي تدعو إليها الحاجة، وسواء أكان ذلك في مجال التبادل التجاري، أم في مجال الاتصال بالأهل والأصدقاء ممن هم في سفر إلى خارج بلادهم.
ولقد وقعت يدي على نص من النصوص الخاصة بتعليم أساليب كتابة الرسائل، وهو نص قديم، قد لا يصلح ما جاء فيه لهذه الأيام، ولكنه يدل دلالة واضحة على البدايات التي سادت فيها الكتابة، ثم تطورت مع مرور الزمن.
عنوان هذا النص، هو: «فوائد من أبدع الأساليب لإنشاء الرسائل والمكاتيب».
ويبدأ بمقدمة تقول:
«المراد بكيفية (كتابة) الرسالة وآدابها اتباع الطريقة المألوفة عند أرباب الأدب، وهي تشتمل على سبع فوائد».
ثم يأتي سرد هذه الفوائد، وهي باختصار:
1 ـ صدر الرسالة، بمعنى بدايتها، وفي هذا يوجه الكاتب رسالته بموجب مقام من كتبت إليه، وتبدأ بعبارات مثل:
حضرة الأخ الأجل، وحضرة الشهم الهمام، وحضرة الصديق المكرم.
2 ـ الابتداء بالتحية، ثم بمقدمة قصيرة يتم بعدها الدخول في الموضوع المراد مباشرة، ويكره التطويل في المقدمات.
3 ـ بيان الداعي إلى كتابة الرسالة، وهذا هو أساسها، ولهذا ينبغي أن يكون بيان الغرض منها واضحا.
4 ـ نهاية الرسالة في ختامها، ويجب أن يكون موجزا في الرسائل التجارية، وأن يكون متضمنا لخلاصة الموضوع في الرسائل الأخرى، مع الختام بالدعاء للمرسل إليه.
5 ـ الإمضاء، وهو التوقيع في آخر الرسالة، وهذا أمر متعارف عليه منذ القدم، وتوجيهها إلى الشخص المقصود مع وضع اسم الكاتب في البداية.
6 ـ التوقيع في أسفلها عند العرب، أما عند الإفرنج ـ يقول كاتب النص ـ ففي أعلاها، من أجل لفت النظر إليه.
7 ـ كتابة العنوان، وهو مما يوضع على ظهر الرسالة أو ظرفها أو غلافها، وفيه اسم البلد المرسلة إليه، واسم من وجهت لأجله مع ذكر ألقابه بحسب مقامه، إضافة إلى ذكر اسمه ومحل إقامته في البلد الذي يسكنه.
هذا بالطبع ما كان يجري قديما، ومنه نرى أن كتابة الرسالة فن مهم كان يدرس، وكانت له أصول لابد أن تراعى، وأن يتقن الكاتب الآخذ بها.
ولذا، فإن هذه المعلومات التي وردت في النص المشار إليه إنما هي منهج تدريس فن المراسلات القديم. ولا يحتاج الدارس بعد فهمه إلا أن يزاول تطبيقات تشتمل على نماذج لرسائل متنوعة، لكي يخرج الطالب بعد كل ذلك قادرا على الكتابة بكل يسر.
ومما لابد من ذكره بعد هذا الذي مر بشأن نظام التراسل القديم هو أن نثبت هنا أن عددا من الكتب التراثية قد اهتمت ببيان ذلك. ولعل من أهمها كتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه الذي أطنب في ذكر كل ما يتعلق بكتابة الرسائل بل وتعداها إلى الحديث عن أدوات الكتابة وما يتعلق بها.
٭ ٭ ٭
وكانت الرسائل في الكويت تكتب وفق الأسلوب القديم إلى أن تطورت كتابتها مع مضي الوقت. وكانت ترسل ـ في البدانة ـ مع الأشخاص المسافرين. ولذلك فإن المرسل ينتظر الفرصة التي يجد فيها من يحمل عنه رسالته إلى من يريد. وهذا يحتاج إلى وقت قد يطول، فإذا أضيف إلى ذلك الوقت الذي يستغرقه وصول الرسالة عرفنا كم كان الاتصال بين الناس صعبا في تلك الأيام.
ومضى الزمن، وجاءت سنة 1945م، وفيها نشأ البريد في الكويت، وبدأ يقدم خدماته للجميع وفق الأنظمة السائدة في كل مكان في الدنيا. فسهل بذلك ما كان صعبا من أمر إرسال الرسائل واستقبال ردودها. وبقيت مهمته ذات أثر في حياة الناس إلى أن نشأت وسائل الاتصالات الأخرى فقل الاعتماد على الرسائل فيما عدا ما يخص الأعمال الرسمية والتجارية.
ولعل مما نستطيع الاستدلال به على أهمية المراسلات البريدية بعد نشأة البريد عندنا هو أن ننظر في كتابنا: «أحمد البشر الرومي: قراءة في أوراقه الخاصة»، لكي نعلم مدى حرصه، وحرص أمثاله على التراسل، فقد أحصيت له عددا من الرسائل التي أرسلها عندما كان في رحلة علاج بلندن فكان عددها يقرب من سبعين ومائة رسالة. ولعل من المهم أن نقدم هنا نبذة يسيرة عن نشأة الخدمة البريدية في البلاد استكمالا لحديثنا المتقدم.
شعرت الكويت منذ زمن طويل بأهمية قيام خدمة البريد فيها، وذلك لكونها بلدا تجاريا من جهة، ولأن أهلها ـ من جهة أخرى ـ من الذين اتخذوا الأسفار مهنة، وبنوا لها كل ما تحتاج إليه من أجل تأدية عملهم التجاري ومن أجل رحلة المسافرين عليها، ولذا فقد كان هذا سببا في نجاح العنصر التجاري، وفي شهرة الكويت بكونها سوقا يجد فيه الزوار كل ما يحتاجون إليه، وهذا هو ما جعلها مركزا تجاريا مهما في المنطقة.
ومن أجل ذلك، فإن الشيخ مبارك الصباح حاكم الكويت منذ سنة 1896 حتى سنة 1915، كان مهتما بأن تتوافر في البلاد خدمة البريد، وقد بدأ اتصالاته مع الجانب البريطاني من أجل ذلك ابتداء من سنة 1901م. ولكن مكتب البريد المطلوب لم يتم افتتاحه هنا حتى جاء شهر يناير لسنة 1915م. وكانت بداية صغيرة، ولكنها أدت مع مرور الوقت إلى تطور طبيعي شمل تحويل البريد إلى مؤسسة وطنية حكومية، وعمم هذه الخدمة في جميع أنحاء الوطن.
٭ ٭ ٭
هذا، وسوف نقدم هنا نماذج اخترناها من بين آلاف الرسائل العربية. غير أن أفضل ما نبدأ به هو تقديم رسالتين من رسائل صدر الإسلام، أولاهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية من احد القادة الذين انتدبهم الرسول الكريم لمهمة يأتي ذكرها وهو الصحابي الجليل خالد بن الوليد. ورد في كتاب السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام ذكر هاتين الرسالتين بتفصيل نقله عن محمد بن إسحق، فقال:
«... بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر (للهجرة) إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا، فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم.
فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس، أسلموا تسلموا.
فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبذلك كان أمره رسول اللہ صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا».
كتاب خالد إلى الرسول يسأله رأيه في البقاء أو المجيء
ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول اللہ صلى الله عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم: لمحمد النبي رسول اللہ صلى الله عليه وسلم، من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: يا رسول الله صلى الله عليك، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا، أقمت فيهم، وقبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، كما أمرني رسول اللہ صلى الله عليه وسلم، وبعثت فيهم ركبانا قالوا: يا بني الحارث، أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم، آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يكتب إلي رسول اللہ صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فكتب إليه رسول اللہ صلى الله عليه وسلم:
«بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: فإن كتابك جاءني مع رسولك تخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرهم وأنذرهم، وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».
فأقبل خالد إلى رسول اللہ صلى الله عليه وسلم، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي.
ويستمر التواصل بين الناس فنرى أبا عثمان عمروبن بحر الجاحظ المتوفى سنة 200هـ (965م) وهو يكتب رسالة يعتذر فيها عن زلة حدثت منه لم يتبين لنا كنهها تجاه أحد الذين كانت له صلة بهم، فقال في رسالته:
«أما بعد، فنعم البديل عن الزلة الاعتذار، وبئس العوض عن التوبة الإصرار، فأنا لا عوض لي عن إخانك، ولا خلف عن حسن رأيك. وقد انتقمت مني ـ في زلتي ـ بجفائك، فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك. فإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك، وغاية عفوك ضمنت لنفسي العفو على زلتها عندك، وقد مسني من الأم ما لم تشفه غير مواصلتك. والسلام»
وكتب الشاعر المعروف أبو العتاهية واسمه إسماعيل بن القاسم، توفي في سنة 213هـ (826م) رسالة إلى الفضل بن معن بن زائدة يعتب عليه عدم إكرامه كما اعتاد الشعراء في زمنه، وذلك بعد أن مدحه وانتظر منه أن يمده بجائزة مالية يأملها منه. ووالد الفضل: معن ابن زائدة رجل من رجال العصر المعروفين بالكرم والمكانة العالية.
وفي رسالة أبي العتاهية قوله:
«أما بعد، فإني توسلت بأسباب الأمل، وذرائع الحمد، فرارا من الفقر، ورجاء للغنى، فازددت بهما بعدا مما فيه تقربت، وقربا مما فيه تبعدت، وقد قسمت اللائمة بيني وبينك، لأني أخطأت في سؤالك، وأخطأت (أنت) في منعي، أمرت باليأس من أهل البخل فسألتهم، ونهيت عن منع أهل الرغبة فمنعتم، وفي ذلك قول الشاعر:
فَرَرتُ مِنَ الفَقرِ الَّذي هُوَ مُدرِكي
إِلى بُخلِ مَحظورِ النَوالِ مَنوعِ
فَأَعقَبَني الحِرمانَ غِبَّ مَطامِعي
كَذالِكَ مَن يَلقاهُ غَيرَ قَنُوعِ
والسلام».
٭ ٭ ٭
بعد هذا، نقدم نموذجين من نماذج الرسائل التي كتبها بعض الكويتيين في زمن مضى، وهما تختلفان قربا وبعدا في طريقة كتابتها. وأولاهما رسالة كتبها: «الشيخ عبد الله الخلف الرحيان في سنة 1922م، وهو أحد رجال العلم الديني الكبار في الكويت، وله عدد من الطلبة الذين أخذوا عنه العلم وصاروا ـ فيما بعد ذلك ـ علماء بارزين. وقد كتبنا عنه وعن طلابه في أكثر من موقع مما يغني عن الإعادة.
وهذه الرسالة التي أشرنا إليها موجهة منه إلى واحد من طلابه النابهين هو أستاذي الشيخ محمد إبراهيم الشايجي، وكان ـ آنذاك ـ يتلقى الدراسة في الزبير لاكتساب مزيد من المعرفة بأمور الدين. وقد رزق بولد وهو هناك، فرأى الشيخ عبد الله الخلف أن يرسل إلى تلميذه مبشرا ومهنئا. والرسالة تدل على عطف الشيخ تجاه تلاميذه، وعلى متابعته لأحوالهم. كما أن أسلوبها يدل على ما يحمله في نفسه من طيبة وسماحة، ونص الرسالة كما يلي:
«من الكويت 27 رجب سنة 1341هـ إلى الزبير.
أهدي السلام التام لجناب الأخ المكرم محمد بن إبراهيم حفظه الله تعالى، وأدام توفيقه وصلاحه آمين،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فإنني أحمد الله إليك، وأسأله توفيقك والإنعام عليك، وأبشرك أن الله تعالى رزقك ولدا ذكرا، جعله الله عبدا صالحا، وأنبته نباتا حسنا، وعلمه كتابه والعلم النافع، وجعله قرة عين لأبويه آمين، ونهنئك بزيارة الأفاضل لاسيما الشيخ عبدالمحسن والشيخ محمد الشهوان، وأحمد، ومن هنا عبدالله الصقيه وعلى المحمد وخويدمك محمد والوالد والوالدة، وابنك المبارك يسلمون، وأهلك ينتظرون منك تسمية ابنك بما تحب من الأسماء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبك الداعي
عبد الله بن خلف»
أما الرسالة الثانية فقد كتبها الأستاذ عبدالعزيز حسين وهو رجل غني عن التعريف لأن آثاره في خدمة وطنه معروفة لدى الجميع، خاصة في النشاط التربوي والثقافي والديبلوماسي والسياسي، وكلها أنشطة قدم خلالها كثيرا من الأعمال النافعة.
في اليوم الثامن والعشرين لشهر نوفمبر 1968م، كتب الأستاذ عبدالعزيز حسين رسالة إلى الأستاذ أحمد البشر الرومي. وكان الأستاذ أحمد البشر يتلقى العلاج في لندن، فأرسل إليه هذه الرسالة المطولة التي تعبر عن مدى الصلة بين الرجلين، وتنم عن محبة المرسل للمرسل إليه. ومنها أنها ليست الرسالة الأولى فقد أرسل إلى صاحبه رسالة قبلها ضلت العنوان فعادت إليه في الكويت. ولن نذهب بعيدا في الحديث عن هذا الأمر قبل أن تذكر الأستاذ أن الأستاذ البشر قد أرسل إلى الأستاذ عبدالعزيز حسين رسالتين جوابيتين إحداهما في اليوم الثاني والعشرين من شهر أغسطس لسنة 1968م، والثانية في شهر مايو لسنة 1978م وتاريخهما يدل على أن الرسالة التي نوردها هنا غير هاتين اللتين رد عليهما أبو عبدالله، وهذا هو نص الرسالة.
عزيزي الأخ أحمد
أطيب التحيات لك مع أجمل التمنيات بالصحة والسعادة.
أمامي الآن عنوانك أخذته من الأخ محمد المضف، وهو مطابق للعنوان الذي لدي والذي أرسلت عليه إليك كتابا فعاد إلي من لندن لخطأ العنوان كما يقولون، ولكن يبدو أنه وصلك وأنت في المستشفى عندما دخلته المرة الثانية، وعلى كل فأنت لم تخسر شيئا بعدم وصوله لأنه لا يحتوي إلا على دردشة فارغة وتمنيات ودعوات أنت تعرف صدقها دون الحاجة إلى كتاب.
أخبارك الصحية عندنا وبالأخص نجاح العملية الثانية، وحسناً فعلت أنك مكثت في لندن لمراجعة الطبيب وحبذا لو طولت البال دون أي تذمر للسفر إلى أن يطلب منك الطبيب ذلك، ولا تقلق حول جو لندن وما يشاع عنه، فقد مكثت عامين متتاليين هناك لم أُصب فيهما بزكام، وفي جو الربيع المشهور بالكويت أصبت أول ما قدمت بالحساسية وما زلت، ولعل من أبهج المناظر في أوروبا تساقط الثلج كنديف القطن الأبيض وبالأخص لمن يراه لأول مرة.
هل ذهبت إلى حديقة النباتات التي تسمى كيو جاردن إنها أعظم حديقة نبات في العالم واعتقد أنك ستقضي فيها يوما ممتعا وبالأخص إذا صادفت يوما صحوا، وهي من الحدائق أو المتاحف التي يغفلها زائرو لندن على أهميتها، وكذلك حديقة الحيوان المفتوحة خارج المدينة التي تسمى هوستيد. الواقع أن لندن تحتوي العالم بأهميته بكل ألوانه وضروبه، ولا شك أنك ستعود إلينا بذخيرة غنية من الأخبار والخبرات والتعليقات.
فهد الدويري خرج من المستشفى قبل أمس وهو الآن بصحة جيدة الأخ محمد ملا حسين يسألني عنك كل يوم وأنا أنقل إليه وإلى أصدقائك الكثيرين أخبارك التي أتلقاها ممن تلقوها منك أو من القادمين من لندن.
هطلت علينا بعض أمطار الوسم، ولذا فإننا نتوقع أن نأكل فقعاً هذا العام كذلك. ولا أدري إذا كنت قد عدلت سبرك وسفرك إلى بعض بلاد أوروبا أم ما زلت على عزمك. في انتظار أخبارك السارة. سلام كل الأصدقاء والأخوان لك.
المخلص عبدالعزيز
ومن الرسائل التي يحسن بنا ذكرها، رسالة قديمة كتبها العم النوخذة داود سليمان الغنيم إلى صاحب له في البحرين بتاريخ اليوم الخامس والعشرين من شهر جمادى الأولى، لسنة 1333هـ، (1914م) وفيها:
إلى جناب المكرم العزيز الأخ جمعة بن محمد الدوي، سلمه الله تعالى. مني سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومغفرته ومرضاته وأزكى وأشرف تحياته.
وبعد، من طرف الباورات التي وصيت محمد حصّلنا واحدة عند فلاح الخرافي وزن هندر ½7 بعد ما وصلت إن كانت ما هي عوده عرفنا.
أوخذ حق شاهين بن محمد بن غانم في بوم بن عثمان عارية إن كان وصل بوم بن عثمان البحرين، شوفوا الباورة حنا أنخلصها منه وحنا عندنا واحدة وزن ثلاثة هندر وربع إن كان تصلح لكم نرسلها.
ومن لدينا الأخ غنيم ومحمد يسلمون عليك. وأنت سالم. وجاسم يسلم عليك وعمرك باقي والسلام.
داود سليمان الغنيم
تدل هذه الرسالة على مدى التعاون بين أبناء الكويت والبحرين منذ ذلك الزمن، وربما كان ذلك من قبله، خاصة في المجالين التجاري والبحري. كما تدل على حسن العلاقة ومتانة الصلات بين أبناء البلدين كما هو واضح من أسلوبها. أما بعض معاني الكلمات فكما يلي:
(من طرف: من جهة. الباورات: جمع باورة وهي مرساة السفينة. بعدما وصلت: لم تصل حتى الآن. عودة: كبيرة، عارية: إعارة. هندر: وزن يقل قليلا عن واحد وخمسين كيلو غراما).
٭ ٭ ٭
ومما يتعلق بالمراسلات القديمة التي نمت بين أبناء الكويت نأتي هنا إلى ذكر ما دار منها بين شاعرين هما: الخال داود سليمان الجراح، والصديق العزيز جاسم النصر الله رحمها الله.
وكانت قد نمت بينهما صداقة متينة، ولما كان أحدهما وهو جاسم النصر الله كثير الأسفار، فقد كانت الرسائل هي التي تتولى إدامة الوصل بينهما، ولذا وجدنا لهما رسائل متبادلة كثيرة فيها التعبير عن الاشتياق، وتمنيّ عودة التلاقي، وفيها ـ أيضا ـ فوائد أدبية جمة، وأشعار رائعة بعضها مختار، والبعض الآخر منها مما كان يقوله هذان الشاعران.
أوردنا فيما مضى من المسامرات ذكر الشاعر الجراح، وهنا ينبغي أن نتحدث عن صاحبه جاسم عيسى النصر الله.
إنه رجل من أهل الكويت المعروفين بقوة صلاتهم بالناس، وحرصهم على حفظ المودة والتعارف معهم، وإذا كان معروفا بهذه الصفات الكريمة فإن كثيرين ممن يعرفونه لا يدرون عن مهاراته الأخرى، فهو كثير الترحال، محب للأسفار، لا يترك فرصة تمر عليه إلا انتهزها لكي يشبع رغبته في التجوال، وتعرف أحوال الناس في بلدانهم، ثم يقوم بتسجيل مشاهداته، وحصيلة اتصالاته في دفتر خاص يطلع عليه كلما أراد أن يتذكر ما جرى له في تلك الرحلات.
وهو إلى ذلك شاعر رقيق، ولكنه ـ بحكم طبعه ـ لا يريد أن يطلع على شعره أحد من الناس فيما عدا المقربين منهم إليه. ولقد كانت من صفاته أنه يروي الأشعار والأخبار والمعلومات الثقافية وكل ما يتعلق بها من أسماء الأشخاص والشعراء، ورواة الشعر، وذلك لفرط اطلاعه وكثرة قراءاته، واتصالاته.
كتب قصيدة من قصائده وهو في مدينة بومبي الهندية، وقام بنشرها في سنة 1947م في مجلة العرب التي كانت تصدر هناك وقد جاءت بدايتها كما يلي:
وطني نحو مائك العذب حنا
مغرمٌ طيرُ قلبه فيك غَنَّى
يا بلاد الحبيب مسقط رأسي
وأماني الكئيب إذ يتمنَّى
ومنها نرى حنينه إلى مسقط رأسه على الرغم من حبه للأسفار ودأبه على الترحال من بلاده إلى أخرى.
وكما ذكرنا فإن جاسم النصرالله كان من أكثر الناس قربا إلى قلب الشاعر داود سليمان الجراح، وقد قضيا أوقانا طويلة معا وهما يلتقيان أو يتراسلان.
ولد جاسم النصرالله في البحرين سنة 1921 م وكان أبواه قد نزحا من الكويت بلدهما الأصلي وأقاما هناك، ولذا نشأ ابنهما في البحرين وتعلم بها، ثم صار مدرسا بعد تخرجه في مدرسة الهداية الخليفية بالمنامة.
نزح بعد ذلك إلى الهند وعمل قليلا في التجارة وقليلا في التدريس لبعض أبناء الجالية العربية في بومبي، وبعد زمن أمضاه هناك أتى إلى الكويت وتزوج فيها واستقر. وقد عمل في الجمارك وفي شركة نفط الكويت (1946) وفي وظيفة من وظائف المحاكم الإدارية منذ سنة 1951م حتى تقاعد في سنة 1972م.
وأبو عيسى يسعدنا عندما لا يكون مسافرا بالزيارة في ديوانية الثلاثاء، ويشاركنا الأحاديث ويمدنا بكثير من المعلومات، ويقرب إلينا خبراته العديدة التي اكتسبها طوال حياته.
ولعل من أهم ما تجب الإشارة إليه للدلالة على عمق الصلة بين هذين الرجلين هو ما ذكرناه في كتابنا: «الحماسة الكويتية» ونص ذلك: «مر جاسم النصرالله بصديقه داود سليمان الجراح، وكان ناويا للسفر من الكويت إلى الهند كعادته، فأحب أن يودع صاحبه دون أن يخبره بأمر سفره ـ كرها في تجديد لحظة الفراق ـ وعندما وصل في طريق سفره إلى البحرين أرسل من هناك رسالة إلى صاحبه وأورد فيها بيتين هما قول الشاعر:
ما اخترت ترك وداعكم يوم النَّوىَ
والله لا مللا ولا لتجنُّب
لكن خشيت بأن أموت صبابة
فيقال أنت قتلته فتُقادُ بي
وأضاف إلى هذه الأبيات قوله:
هذان البيتان يفسران قولي لك عند سفري من الكويت عند سؤالك لي متى يقلع اليوم؟ أجبت غدا، والحال أنه ليس ما بين الوقت الذي كنت فيه عندك، وإقلاع السفينة إلا ساعة واحدة، وكل ذلك عملته صدودا مني عن موقف الوداع». ويكفي هذا لبيان علاقة المودة بينهما، كما يكفينا دليلا على المراسلات التي كانا يتبادلانها.
٭ ٭ ٭
هذا عرض واسع لمكانة التراسل بين أبناء هذه الأمة منذ البداية، وحتى الوقت القريب الذي عشناه، وشهدنا فيه بداية تطور الاتصالات. وعلى الرغم من أن الطريقة القديمة قد انتهت عندنا منذ سنة 1915م كما تبين فيما سبق، فإن الماضي لابد أن يذكر.