الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

سقوط الأندلس.. الفاجعة الكبرى.. بقلم:  د.يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - الخميس 23 يونيو 2022 07:45 مساءً - الكويتيون لم يخلُ بالهم من الأندلس فأطلقوا اسمها على إحدى المناطق بالإضافة إلى غرناطة وإشبيلية وقرطبة
  • مدارس وطرق ومرافق تحتفظ بأسماء أندلسية وإن كانت هـذه البلاد ضاعت منا لكنها لم تخرج من قلوبنا وتاريخنا
  • لسان الدين الخطيب رجل الدولة والشاعر المجيد والعالم لا يزال شعره يتردد موشحات وقصائد خالدة
  • بعض سلالات عرب الأندلس من فرط حبهم لها مازالوا يحتفظون بمفاتيح بيوت سكنهم أملاً في العودة من جديد
  • سقوط الأندلس كان ذا وقع شديد على أهلها والعالم الإسلامي أجمع وعبّر شعراؤها عن ذلك أفضل تعبير
  • فاضل خلف روى في كتابه حكاية رحلته إلى الأندلس وسجلها بعين الأديب الشاعر ذي الإحساس المفرط


تستمر بنا المسامرات فتأخذنا هذه المرة إلى مكان بعيد عن العين قريب إلى القلب، هذا المكان هو الأندلس البلد الذي عاش فيه المسلمون العرب لعدة قرون ثم خرجوا منه بعد أن خسروه وخسروا أنفسهم من قبله، وذلك بتفككهم، وتحول بلادهم إلى دويلات صغيرة سميت كل دولة منها مملكة حتى تهكم بها شاعرهم فقال:

ألقابُ مملكة في غير موضعها

كالهرِّ يحكي ـ انتفاخا ـ صولة الأسد

ولكن الأندلس بقيت في القلوب، لها تاريخ لا ينسى، وبها من رجال العلم في كافة جوانبه أعداد كبيرة، تراثهم الباقي عنهم نفخر به، بل وتفخر به الإنسانية كلها.

كان خروج أهل الأندلس منها فاجعة كبرى أجاد في وصفها أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:

خرج القومُ في كتائب صمٍّ

عن حفاظ كموكب الدفن خرسِ

ركبوا بالبحار نعشًا وكانت

تحت آبائهم هي العرش أمسِ

إمرة الناس همة لا تأتَّى

لجبان ولا تسنّى لجبسِ

وإذا ما أصاب بنيان قوم

وهْيُ خلقٍ فإنه وهْيُ أُسِّ

ذهب ذلك الملك العظيم وبقيت لنا آثاره، ولاتزال قلوبنا متعلقة به إلى يومنا هذا. ونحن في الكويت ـ شأن أمة العرب كلها ـ لم يخل بالنا من ذكر الأندلس، فنحن معها في كل أوقاتنا، والدليل على ذلك أننا نحتفظ بأسماء تلك المدن الأندلسية التي شهدت حضارة العرب في تلك الديار، وإذا قلبنا أبصارنا وجدنا في طرقنا وفي كثير من المرافق عندنا ما يذكرنا بها وهذا هو البيان لذلك:

1 ـ في الكويت مناطق سكنية عامرة أطلق عليها من أسماء المدن الأندلسية ما قربها إلى الأذهان، فهذه هي منطقة غرناطة وهذه هي إشبيلية وقرطبة والأندلس.

2 ـ ولدينا مدارس قد أطلقت عليها أسماء ذات علاقة بالأندلس فهذه مدارس قرطبة والأندلس وطليلة وإشبيلية.

3 ـ أما الشخصيات المشهورة في الأندلس فقد نالت حظها من الذكر في أسماء الشوارع، فهنا شارع لسان الدين بن الخطيب، وشارع ابن حزم، وابن رشد، والشاعر ابن هاني، وغيرهم.

4 ـ وصارت بعض المرافق تحتفظ بأسماء أندلسية، فقد أطلق اسم: الحمراء على أول دار من دور السينما في الكويت كانت على مستوى عال بين دور العرض في المنطقة العربية كلها.

إن الأندلس التي ضاعت منا لم تخرج من قلوبنا، ولم تخرج من تاريخنا، وكيف يكون ذلك، ونحن نشاهد علاماتها في كل مكان ونقرأ لمؤلفيها في كل يوم، ونستمع إلى أشعار شعرائها دون ملل.

ولنأخذ مثالا باهرا لهؤلاء الرجال كي نتحدث عنه، إنه لسان الدين بن الخطيب (1313م 1374م)، هو رجل دولة كان مسؤولا كبيرا في البلاد التي عاش فيها وأولها غرناطة. وكان عالما وشاعرا مجيدا، وقد تلقى علما غزيرا في بداية حياته حتى استطاع أن يكتسب المقدرة على أداء الأعمال التي اضطلع بها، وأن ينال رضا رؤسائه كما نال حسن سمعته.

له كتب مطبوعة تحكي عن الأندلس ورجالها، ومنها كتاب «الإحاطة في أخبار غرناطة»، ونرى كتاب «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، وهو في عدة مجلدات، ذكر مؤلفاته، ووصفها، وهي كثيرة.

ولهذا الرجل شعر لايزال يتردد، ولا أظن هواة الموشحات الأندلسية لم يستمعوا ويسعدوا بموشحه الشهير:

جادَك الغيث إذا الغيث هَمى

يا زمان الوصل بالأندلسِ

لم يكن وصلك إلا حلما

في الكرى أو خلسة المختلسِ

إذ يقود الدهر أشتات المنى

تنقل الخطو على ما يُرسَمُ

زُمَر بين فُرادى وثُنا

مثلما يدعو الوفودَ الموسمُ

وله موشحات أخرى مشهورة.

غير أن ما يعجبني من شعره أبيات سمعتها غناء، فكان لها وقع شديد في نفسي، حيث اتسمت بجودة السبك واختيار الألفاظ ورقي المعاني وهي قوله في وصف زائرة له في ليلة مقمرة:

زارت ونجم الدجى يشكو من الأرق

والزهر سابحة في لجة الأفق

والليل من روعة الإصباح في دهش

قد شاب مفرقه من شدة الفرق

قالت تناسيت عهد الحب قلت لها

لا والذي خلق الإنسان من علق

ما كان قط تناسي العهد من شيمي

ولا السلو عن الأحباب من خلقي

كم ليلة بتها والطيف يشهد لي

لم تطعم النوم أجفاني ولم تذق

أشكو الى النجم وهنا ما أكابده

حتى شكا النجم من وجدي ومن قلقي

وهذا النمط الشعري العاطفي الجميل، يجتمع في تشابه جلي من حيث الوزن والقافية، ومن حيث الروح التي أملته على الشاعر مع تلك الأبيات التي أشرنا إلى أنها قد سمعت مغناة بلحن جميل وصوت رائع حتى لا نكاد نرى أي اختلاف بين المقطوعتين. وسوف ندرج فيما يلي أبيات لسان الدين ابن الخطيب التي تعنينا هنا، علما بأن مغنيها الأول هو الفنان صباح فخري، ومغنيها الثاني طفل اسمه يمان قصار، كان مشاركا في إحدى المسابقات، وقد شد الأسماع إليه نظرا إلى مقدرته الفنية العالية، وصوته العذب. أما الأبيات المقصودة فهي:

جاءت معذبتي في غيهب الغسق

كأنها الكوكب الدري في الأفق

فقلت نورتني يا خير زائرة

أما خشيت من الحراس في الطرق

فجاوبتني ودمع العين يسبقها

من يركب البحر لا يخشى من الغرق

فقلت هذي أحاديث ملفقة

موضوعة قد أتت من قول مختلق

قالت وحق عيوني عز من قسم

وما على جبهتي من لؤلؤ الرمق

إني أحبك حبا لا نفاد له

ما دام في مهجتي شيء من الرمق

وبقيت من هذه المقطوعة ثلاثة أبيات نحجبها هنا لسببين أولهما أنها لم ترد في الغناء، وثانيهما أنها من الغزل المكشوف. وما قدمناه فيه الكفاية، ولعل المتأمل يلحظ أن الشاعر كان يشير إلى حراس الطرق في بلده الأندلس، وهذا دليل على عناية نظام الحكم هناك بالأمن. كما يلاحظ تكرار لفظ (الرمق) وله هنا معنيان أولهما بمعني الدمع القليل المتناثر من العين، وثانيهما هو: بقية الروح في كل حي. ومن الملاحظ أيضا أن هناك انفصالا بين المقطوعتين اللتين ذكرناهما حتى إننا لا نستطيع أن نقول إنهما من قصيدة واحدة، ولكن ما هو حاصل ـ بالتأكيد ـ أنها للشاعر الذي تحدثنا عنه، وهو: لسان الدين ابن الخطيب.

٭٭٭

ولئن اخترنا لهذا الأديب البارز من أبناء الأندلس بعض شعره الذي يتميز بتصوير العاطفة الإنسانية عن طريق غزل مصاغ بأسلوب تعشقه النفوس، فإن في هذه البلاد أمورا كثيرة في مجالات أخرى مختلفة ولا مجال للإحاطة بها هنا. فقد تكفلت بها كتب كثيرة منها ما كان من تأليف علماء من أهل الأندلس. ومنها ما صدر في القرنين الماضيين عن طريق بحوث علمية وتاريخية وأدبية ودينية كتبها متخصصون، أو عن طريق تحقيق وإصدار عدد من الخطوطات التي وردت عن العلماء الأندلسيين، ولكننا الآن نكتفي بالإشارة إلى ما كان، ثم إننا لنتساءل عن آثار هذه النكبة في نفوس أولئك الذين اكتووا بها، وهذا هو بيان ذلك:

كان عرب الأندلس من أشد الناس حبا لوطنهم، وقد بلغ بهم ذلك أن بعض سلالاتهم لاتزال تحتفظ بمفاتيح بيوت سكنهم هناك أملا في العودة. وكان شعراؤهم يذكرون دائما محاسن ذلك البلد الجميل. فهذا هو الشاعر ابن خفاجة الأندلسي المعروف بأنه شاعر شرقي الأندلس، واسمه اسحاق بن إبراهيم بن خفاجة، يمتاز شعره ـ إضافة إلى رقة ديباجته ـ بوصفه الطبيعة الأندلسية الفاتنة، وهو كثيرا ما يخاطب أبناء وطنه مادحا لهم وواصفا بلادهم التي هي بلاده أيضا. ومن ذلك قوله:

يا أهل أندلس لله دركم

ماء وظل وأنهار وأشجار

ما جنة الخلد إلا في دياركم

ولو تخيرت هذا كنت أختار

لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقرا

فليس تدخل بعد الجنة النار

وهذه المبالغة في إبراز مكانة الأندلس في نفسه تدل على مدى تعلقه بوطنه، وإعجابه بما فيها من مفاتن الطبيعة. وهو معذور في مبالغته حتى ولو خرج بها عن المألوف، فالوطن عزيز.

ولقد كان سقوط الأندلس من أشد الأمور وقعا على أهلها، بل وعلى العالم الإسلامي أجمع. ولقد عبر شعراؤها عن ذلك الفزع العظيم الذي أصابهم إثر فقدانهم لوطنهم الذي عاشوا وعاش آباؤهم وأجدادهم فيه ثمانية قرون، ولم يملك بعض هؤلاء الشعراء إلا أن يقولوا قصائد في رثاء ذلك الوطن، ومن هؤلاء أبو البقاء: صالح بن شريف الرندي، الذي اشتهر ولاتزال شهرته عالقة في الأذهان بقصيدته التي رثى بها بلاده فأجاد غاية الإجادة، وكان مطلعها قوله:

لكل شيء إذا ما تم نقصانُ

فلا يغرّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمور كما شاهدتُها دولٌ

من سرّه زمن ساءته أزمانُ

ومن هنا بدأ معلقا على ما ورد في هذين البيتين، ذاكرا الأمم العظيمة التي حكمت عددا من البلدان، ثم بادت بعد أن كانت ملء القلوب والأبصار. ثم يبدأ في وصف الحال قائلا:

دهى الجزيرة أمر لا عزاء له

هوى له أُحدٌ وانهد ثهلانُ

أصابها العين في الإسلام فارتزأت

حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

وأين شاطبة أم أين جيانُ

وأين قرطبة دار العلوم فكم

من عالم قد سما فيها له شانُ

قواعد كن أركان البلاد فما

عسى البقاء إذا لم تبق أركانُ

ثم يدعو بقية المسلمين الذين هم في ديار غير ديار الأندلس فيقول لهم:

يا راكبين عتاق الخيل ضامرة

كأنها في مجال السبق عقبانُ

وحاملين سيوف الهند مرهفة

كأنها في ظلام النقع نيرانُ

وراتعين وراء البحر في دعة

لهم بأوطانهم عز وسلطانُ

أعندكم نبأ من أهل أندلس

فقد سرى بحديث القوم ركبانُ

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم

قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ

ويواصل في قوله هذا بيان الحال الذي حل بالأندلس، شاجبا عدم اهتمام بقية الأمة بما حدث. وهم يرون ما حل بالناس في كل مكان من تلك البلاد المنكوبة إلى أن يقول:

لكل هذا يذوب القلب من كمدٍ

إن كان في القلب إسلام وإيمانُ

٭٭٭

تحدثنا في البداية عن تعلق أبناء الكويت بالأندلس وأوردنا عددا من الأدلة على ذلك، وكان منها أسماء بعض المناطق وبعض الشوارع والمدارس عندنا. ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فقد كان للأندلس وجود في الأدب الكريتي لا بد من الإشارة إليه.

ذلك أننا وجدنا أحد أدبائها يؤلف كتابا يتناول فيه وصف رحلة له إلى هناك في سنة 1960م ويقدم لمحات مهمة عن تاريخ البلاد، وعن الأماكن التي زارها، وكانت لها علاقة بالوجود العربي الذي ذهب من أجل البحث عنه. يدخل هذا الكتاب ضمن أدب الرحلات كما يدل ضمن كتب التاريخ لأنه ضم ملامح تاريخية مهمة لا بد من الاطلاع عليها لاكتساب مزيد من المعرفة بذلك الفردوس المفقود.

الكاتب هو الأستاذ فاضل خلف، وهو غني عن التعريف، فإن انتاجه (شعرا ونثرا) يدل عليه، وعلى ما يتمتع به من مقدرة عالية في التعبير وتمكن من إيصال المعلومات إلى القراء بأسلوب سهل ممتنع مستعينا بملكته الشعرية أحيانا والقصصية أحيانا والنثرية بوجه عام في أحيان أخرى.

وعلى الرغم من يقيننا من معرفة كثيرين من الناس بالأستاذ فاضل خلف فإننا ينبغي أن نذكر عنه شيئا من سيرته الذاتية لكي يطلع عليها من لم يسعده الحظ بمعرفتها من قبل.

كان الأستاذ فاضل أول كويتي يصدر مجموعة قصصية هي: أحلام الشباب، وأول كويتي يصدر بحثا أدبيا هو كتاب: زكي مبارك، وقد أصدر عدة دواوين شعرية منها: على ضفاف مجردة، و25 فبراير، وكاظمة وأخواتها، وله أعمال متنوعة أخرى وكلها مطبوع ومنشور.

ولد الأستاذ في الكويت سنة 1927م. وتلقى دروسه في المدرسة الشرقية ثم المدرسة المباركية، وامتهن بعد ذلك مهنة التعليم في هاتين المدرستين، ثم في مدرسة الصباح الابتدائية. وكان ذلك منذ سنة 1949م حتى سنة 1952م، ثم أمضى فترة من حياته موظفا في دائرة المطبوعات والنشر (وزارة الإعلام حاليا)، بعد أن انتقل إليها من دائرة معارف الكويت (وزارة التربية اليوم).

وفي سنة 1958م توجه إلى بريطانيا رغبة منه في الاستزادة من المعارف، وأقام هناك في مدينة كامبردج، حيث لقي هناك من كان في تلك الجامعة من المستشرقين، وألمّ بما في ذلك البلد المعروف بجامعته العريقة، ومكتبتها الغنية بأمهات الكتب مع عنايتها بالمخطوطات العربية القديمة. ولقد بقي الأستاذ هناك إلى سنة 1961م حيث عاد إلى أرض الوطن، وفي هذه السنة جرى في بلادنا أمر مهم هو إلغاء الاتفاق التعاقدي بين الكويت وبريطانيا الذي بدأ في سنة 1899م، وبالتالي فقد أقيمت للبلاد سفارات في كثير من الدول، ولما كان الأستاذ فاضل خلف مرتبطا بالعمل مع وزارة الإرشاد والأنباء (الإعلام حاليا) فقد انتدبته هذه الوزارة لكي يعمل ملحقا صحفيا في سفارة الكويت بتونس. وقد قام بمهمته هذه خير قيام وأمضى هناك زمنا أنتج فيه كثيرا من الأعمال الأدبية على اختلاف أنواعها، وشارك في كثير من الأنشطة الثقافية في ذلك البلد العربي، ثم عاد إلى الوطن بعد أن أمضى مدة طويلة هناك، ولكنه ترك ذكرا عاطرا، وسمعة طيبة عنه شخصيا وعن الوطن الذي يمثله: الكويت.

ولما كان موضوعنا منذ بدايته مرتبطا بالأندلس فإن من المستحسن أن نذكر في نهايته أحد أعمال الأستاذ فاضل خلف المهمة، وهو عمل له علاقة بأدب الرحلات، إذ سجل فيه رحلة له جرت في سنة 1960م إلى الأندلس، وقد ألف في ذلك كتابا بعنوان: «دراسات أندلسية».

وهذا وصف سريع لهذا الكتاب، وذلك لأنه عمل مهم من أعمال هذا الأديب الكويتي البارز، ولأنه على علاقة بمسامراتنا هذه باعتباره حديثا عن الأندلس بعد زيارة متأخرة لها رآها الكاتب بعين الأديب الشاعر ذي الإحساس المفرط بتاريخ الإسلام مما نجد له أثرا فيما كتب.

الكتاب الذي روى فيه الأستاذ فاضل خلف حكاية رحلته إلى الأندلس، يحكي تفصيلات هذه الرحلة التي بدأها ـ كما قلنا ـ في سنة 1960م، وزار خلالها بعض الأماكن المذكورة في تاريخ تلك البلاد منذ الفتح الإسلامي على يدي البطل طارق بن زياد الذي بدأت رحلة الأستاذ من عند الجبل المسمى باسمه، وهو جبل طارق الذي كان مفتاح الوصول إلى هناك. وقد صدر هذا الكتاب بعنوان: «دراسات أندلسية». وفيه وصف دقيق لكل المشاهد التي يراها الزائر المهتم فيربط بينهما وبين عناصر التاريخ الذي مرت به ومر بها.

عندما وصل أبو محمد إلى هناك أحس وكأنه واحد من الأصحاب الأوائل لذلك المكان العامر بالذكريات والعاطر بأريج التاريخ، ولذا فإنه ترك نفسه على سجيتها فرأيناه ينطلق بالحديث من عدة جوانب: واصفا، ومؤرخا، ومعبرا عن مشاعر الأسى الذي يغمر كل زائر من أبناء أمتنا عندما يرى هذه الآثار الباهرة لحضارة نمت وعلت ثم رحل عنها أهلها قسرا، وقد بقي ما يدل عليها من نصب معمارية وكنوز ثقافية لاتزال ماثلة أمام أعين الناس، بل لقد وجدنا مؤلفات علمائها وأدبائها وأشعار شعرائها لاتزال تملأ مكتبات الوطن العربي، وتشهد على تلك الفترة النيرة من حياة عاشها أهل تلك البلاد التي يصعب نسيانها.

كان من المهم أن يبدأ أبو محمد بجبل طارق فيتحدث عنه حديث مشاهد، وقارئ لتاريخه، وهكذا صنع في إشبيلية، وعندما وقف في مسجد قرطبة، وقصر الحمراء. وعندما تحدث عن ذلك الكنز الأدبي الرائع الذي ذكره الأندلسي المقري في كتابه «نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، ولم ينس ذلك الشاعر الذي عم ذكره الآفاق: أحمد بن زيدون، ولا المعتمد بن عباد الذي عاش ابن زيدون تحت ظله.

كما لم ينس أن يكتب تعليقاته على كل ما شاهده من مشاهد، وهي تعليقات تعد شهادة لتاريخ الأندلس العريق الذي لايزال محفوظا في النفوس والطروس.وقد جاء ذلك في ثلاثة فصول من الكتاب هي:

ـ الصفحة الأخيرة من تاريخ الأندلس.

ـ القلب الخافق.

ـ أصداء بعيدة.

ولأن الأستاذ فاضل خلف شاعر مجيد، معروف بقصائده التي استمع إليها أبناء الكويت وغيرهم، فإنه لم يستطع أن يتجاهل الشعر وهو في مقام يدعوه إليه، فضمن كتابه ثلاث قصائد جميلة ومتنوعة الأهداف، هي:

ـ جبل طارق.

ـ إقبال في محراب مسجد قرطبة.

ـ وديعة مدينة سالم.

وكان مما قاله في جبل طارق:

صرحٌ مدى الأزمان ناطق

يروى أقاصيص البواشق

يروي أقاصيص العلا

والمجد من أيام طارق

ويحدِّث التاريخ في

صحفٍ مطهرةٍ نواطق

أما القصيدة الثانية وهي: إقبال في محراب مسجد قرطبة، فهي تتضمن تصويرا لزيارة ذلك الفيلسوف المسلم الشاعر محمد إقبال الذي جاء من الباكستان، لكي يرى آثار أمته في الأندلس، فوقف في هذا المسجد باعتباره من أهم ما يمثل الأمة التي ينتمي إليها، فهزه الشوق إلى أيام ذلك الماضي الحافل بالمكارم والأمجاد، وكان فاضل خلف معبرا عما دار في خاطر إقبال أصدق تعبير، وكأنه واقف معه يتأمل ردود فعله، ويشهد صلاته، ولذا فقد قال:

ماذا رآى؟ يا للمشاعر من تصاريف الدهور

ماذا رآى؟ والدار قفْرٌ من قريب أو عشير

ماذا تصبّى شاعر الإسلام أثناء المسير؟

ماذا تصبي الشاعر الحساس في الصمت المرير؟

في صمت مسجدها المعطل في الأصائل والبكور

في صمته بعد الفخار وبعد عهد مستنير

في همسه بعد الصلاة وقد غدت خلف الستور

في الصمت بعد تلاوة القرآن في البيت الوقور

ومن هنا يعرج على الصلاة التي أداها هناك ذلك الشاعر الباكستاني المسلم محمد إقبال في ذلك المسجد المهجور قسرا فيقول:

لله ما أبهى الصلاة، صلاة إقبال الكبير

وصلاته السمحاء تبعث بالسكينة في الصدور

وقيامه في دوحة المحراب بالقلب الكسير

ولن نذهب في اختياراتنا من شعر الأستاذ فاضل خلف إلى أكثر من ذلك، فشعره وارد في دواوينه ومؤلفاته الأخرى، ولكن ما قدمناه ليس سوى نماذج للاستدلال.

وهذا هو ختام حديثنا الذي ندعو خلاله لأستاذنا فاضل خلف بالصحة والعافية، ومزيد من الإنتاج الرائع.

Advertisements
Advertisements

قد تقرأ أيضا