الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

مجالس العلم والأدب.. جواهر للمُلح والنوادر.. بقلم : د.يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - الخميس 25 أغسطس 2022 09:41 مساءً - تراث غني بكل ما يبهج النفس من الأخبار والمعلومات ومختارات الشعر عالي القيمة
  • الشاعر داود الجراح أجاد في الطرافة ورصد حادثة طريفة في «النعال المسروقة»
  • الشاعر علي الجارم روى «شعراً» مظهر الضباب في لندن و«عمياناً يقودون المبصرين»
  • الشاعر صقر الشبيب ضمّن ديوانه قصيدة رائعة حملت عنوان «عنز تأكل الكتبا»


بقلم د.يعقوب يوسف الغنيم

المسامرات التي نقدمها هنا بين وقت وآخر إنما هي استنساخ لنماذج من المسامرات العربية القديمة التي كانت موضع الحديث في المجالس التي يغشاها الأدباء والعلماء والشعراء في ماضي الأمة العربية.

وقد تركت لنا هذه المجالس تراثا غنيا بكل ما يبهج النفس من أنواع المختارات المثيرة للإعجاب، وأظهرت لنا مدى اهتمام أولئك الرجال بتجميل جلساتهم عن طريق ذكر كل ما يسر من الأخبار، والمعلومات، ومختارات الشعر العالي القيمة.

وتتنوع الموضوعات التي يدور الحديث حولها في تلك الجلسات بحسب أمزجة المتحدثين، ورغبات المستمعين، ولقد جمعت هذه الأحاديث التي دارت - إلا القليل منها - في كتب بعضها مطبوع نراه بيننا الآن، يسهل الاطلاع عليه، فيعجبنا ما جمعت أذهانهم من فيض المعرفة والدراية بما كان يدور في المجتمعات العربية التي كانوا يعيشون بينها، كما نعجب بقوة حافظتهم، وحسن استقبالهم لأحاديث من سبقهم حتى استطاعوا جمع كل هذه الكنوز التي تضمها اليوم تلك الكتب المشار إليها.

بدأت المجالس العلمية والأدبية على أيدي علماء اهتموا بالأمور الجادة، من عناية بعلوم تفسير القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، واللغة، وجمع الشعر الذي جاء إليهم ممن سبقهم من الشعراء، ثم تنوعت الاختيارات فصار الكتاب الواحد من كتبهم يحتوي على كل ما يمكن أن يطلع عليه القارئ فيستفيد به، بعد أن كان فيه أنس المستمع الجالس إلى من يتحدث إلى مجالسيه، وقد بدأ التنويع في التأليف بعد أن اطلع طلاب المعرفة على كتب من أمثال كتاب مجالس ثعلب (أحمد بن يحيى الشيباني إمام علماء أهل الكوفة في اللغة والنحو، وثعلب لقبه، ولد في سنة 200 هـ - 904م وكتابه مجالس ثعلب مطبوع في مجلدين وقد حققه شيخي الأستاذ عبد السلام هارون وطبع لدى دار المعارف بمصر)، وكتاب الحيوان لعمرو بن بحر الجاحظ، والأغاني للأصفهاني، والأمالي لأبي علي القالي، ثم العقد الفريد لأحمد بن عبدربه، وغير ذلك كثير. وقد سبق لنا التنويه بكتابين من هذا النوع ألفهما إبراهيم بن علي الحصري القيرواني. وهما:

- زهر الآداب وثمر الألباب.

- جمع الجواهر في الملح والنوادر.

ومما ينبغي أن نذكره هو أن هذين الكتابين كأنهما كتاب واحد من حيث تماثل موضوعاتهما. حتى لقد أطلق البعض على الكتاب الثاني اسم: «ذيل كتاب زهر الآداب».

يضم المؤلف في هذين الكتابين مجموعة كبيرة من المختارات النثرية والشعرية، كما يضم أخبار بعض الأحداث المهمة التي مرت بتاريخ أمته، بما في ذلك ما كان يجري في مجالس الخلفاء، وكبار القوم، ومحاورات الأدباء والعلماء.

ولقد اعتذر القيرواني لقرائه من حيث قيامه برصد عدد من الأحداث ذات الصفة الهازلة، على الرغم من تميز كثير مما جمعه من فقرات بالجدية، لأنها كانت تمثل آراء الخلفاء والعلماء.

وقد قال في هذا المجال إن هدفه كان منصرفا إلى: «أن يجمع كتابا في جواهر النوادر، ولمح الملح، وفواكه الفكاهات، ومنازه المضحكات، ترتاح إليه الأرواح، وتطيب له القلوب».

ثم بين أن تقديم كل ذلك لا يخل بما يجب أن يكون عليه المرء من الاستقامة، لأنه يحتوي على: «ما يطلق النفس من رباطها، ويعيد إليها عادة نشاطها، إذا انقبضت بعد انبساطها، فقد قيل: القلب إذا أكره عمي».

ومؤلف هذين الكتابين هو: إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، وهو أديب ناقد، جامع لكثير من النوادر والحكايات، وهو من أهل القيروان البلد التونسي المعروف حتى يومنا هذا.

وله غير هذين الكتابين كتب أخرى منها ما هو مخطوط تحتفظ به المكتبات التي تعنى بأمثاله، وهو - أيضا - شاعر رقيق الشعر.

توفي في سنة 1061م، ولايزال ذكره ساريا بين محبي الأدب، ومتابعي الكتب.

***

وقد آن لنا - هنا - أن نختار من بعض ما انتقاه القيرواني في الكتابين اللذين أشرنا إليهما. ونبدأ باختيار واحدة من المقامات التي أوردها، وهي من المقامات التي كتبها بديع الزمان الهمذاني، أما المقامة - بشكل عام - فهي حكاية يصوغها كاتبها بأسلوب فيه نوع من السجع لفظا، والخيال معنى.

ويعد بديع الزمان الهمذاني من أوائل من كتب المقامة بالصورة التي وردت إلينا عنه، وهو الذي سماها باسمها هذا، فصارت الحكاية الواحدة تدعى: المقامة، وتجمع على مقامات، ومن أشهر المقامات بعده: «مقامات الحريري» وهي - أيضا - من المقامات المشهورة والمطبوعة في وقتنا الحاضر.

والحريري لقب للقاسم بن علي الحريري ولد لأسرة عربية في سنة 446هـ، وتوفي في سنة 516هـ، وكان عالما باللغة، يجلس للتدريس فيقبل عليه الكثيرون للتلقي عنه، والاستفادة من علمه الغزير.

واسم بديع الزمان أحمد بن الحسين، وبديع الزمان لقبه الذي اشتهر به، وهو من مواليد بلدة همدان الإيرانية في سنة 358هـ. وفي آثاره المكتوبة ما يدل على أن له أصولا عربية.

أما المقامة التي اخترناها لعرضها في هذه المسامرة فهي التي جاءت بعنوان: «المقامة الأهوازية» ونستدل بها على حسن اختيار القيرواني لما رصده في كتابيه من حيث جودة المعلومات وحسن الصياغة والطرافة في وقت واحد.

سمي بديع الزمان مقامته هذه باسمها الذي ذكرناه لأنها تصف حادثا جرى لبطلها في مدينة الأهواز المعروفة إلى هذا اليوم.

يقول الهمذاني:

حدثنا عيسى بن هشام - وهو الذي اعتاد أن يروي عنه مقاماته - أنه كان في مدينة الأهواز مع صحب له، اجتمع رأيهم على مزاولة الأنس، فاتجهوا إلى حيث يغترفون من اللذات ما أمكنهم رغبة في إدخال السرور على أنفسهم.

يقول الراوي:

استقبلنا رجل في طمرين في يمناه عكازة، وعلى كتفيه جنازة، فتطيرنا لما رأينا الجنازة وأعرضنا عنها صفحا، وطوينا دونها كشحا.

فصاح بنا صيحة كادت الأرض لها تنفطر، والنجوم تنكدر، وقال:

لترونها صغرا ولتركبنها كرها وقسرا، ما لكم تطيرون من مطية ركبها أسلافكم، وسيركبها أخلافكم، وتتقذرون سريرا وطئه آباؤكم، وسيطؤه أبناؤكم، أما والله لتحملن على هذه العيدان، إلى تلكم الديدان، ولتنقلن بهذه الجياد، إلى تلكم الوهاد، ويحكم تطيرون، كأنكم مخيرون، وتتكرهون، كأنكم منزهون، هل تنفع هذه الطيرة، يا فجرة؟

قال عيسى بن هشام: فلقد نقض ما كنا عقدناه، وأبطل ما كنا أردناه، فملنا إليه وقلنا له: ما أحوجنا إلى وعظك، وأعشقنا للفظك، ولو شئت لزدت.

قال: إن وراءكم موارد أنتم واردوها، وقد سرتم إليها عشرين حجة:

وإن امرأ قد سار عشرين حجة

إلى منهل من ورده لقريب

ومن فوقكم من يعلم أسراركم، ولو شاء لهتك أستاركم، يعاملكم في الدنيا بحلم، ويقضي عليكم في الآخرة بعلم، فليكن الموت منكم على ذكر، لئلا تأتوا بنُكر، فإنكم إذا استشعرتموه لم تجمحوا، ومتى ذكرتموه لم تمرحوا، وإن نسيتموه فهو ذاكركم، وإن نمتم عنه فهو ثائركم، وإن كرهتموه فهو زائركم.

قلنا:

فما حاجتُك؟

قال:

أطول من أن تحد، وأكثر من أن تعد.

قلنا:

فسانح الوقت.

قال:

رد فائت العمر، ودفع نازل الأمر.

قلنا:

ليس ذلك إلينا، ولكن ما شئت من متاع الدنيا وزخرفها.

قال:

لا حاجة لي فيها، وإنما حاجتي بعد هذا أن تخدوا أكثر من أن تعوا.

طمرين: كساء مكون من قطعتين.

جنازة: نعش.

كشح: انحراف إلى جانب.

حِجّة: سنة.

فكانت عظة هذا الرجل لهم سببا من أسباب عزوفهم عن اللهو، ورجوعهم إلى الطريق المستقيم.

***

وفي كتاب: جمع الجواهر.. حكاية من الغرائب، ذكر المؤلف أنها حدثت في زمن الخليفة هارون الرشيد، وكان يطلبها النديم الشهير بالتلحين والغناء إبراهيم الموصلي الذي كان من مجالسي الرشيد الدائمين، وقد وردت هذه الحكاية رواية عنه: «قال إبراهيم الموصلي:

استأذنت الرشيد في أن يهب لي في كل أسبوع يوما، أخلو فيه مع جواري، فأذن لي في يوم الأحد، وقال: هو يوم استثقله، فلما كان في بعض الآحاد أتيت الدار، فدخلت وأمرت الحجاب ألا يأذنوا لأحد علي وأغلقت الأبواب.

فما هو إلا أن جلست حتى دخل علي شيخ حسن السمت والهيئة، على رأسه قلنسوة لاطئة، وفي رجله خفان أحمران، وفي يده عكازة مقمعة بفضة، وعليه غلالة سكب.

فلما رأيته امتلأت غيظا، وقلت: ألم آمر الحجاب ألا يأذنوا لأحد، فسلم.

فأفكرت وقلت: لعلهم علموا من الشيخ ظرفا وهيئة، فأحبوا أن يؤنسوني به في هذا اليوم، فلما أمرته بالجلوس جلس، وقال: يا إبراهيم ألا تغنيني صوتا؟ فامتلأت عليه غيظا ولم أجد إلى رده سبيلا، لأنه في منزلي، وحملته منه على سوء أدب العامة، فأخذت العود وضربت وغنيت ووضعت العود.

فقال لي: لم قطعت هزارك؟ فزادني غيظا، وقلت: لا يُسيّدني ولا يكنّيني ولا يقول: أحسنت! فأخذت العود فغنيت الثانية، فقال لي: أحسنت، فكدت والله أشق ثيابي، فغنيت تمام الهزار.

فقال: أحسنت يا سيدي! ثم قال: ناولني العود، فوالله لقد استجابه، فوضعه في حجره، ثم جسه من غير أن يكون ضرب بأنملة، فوالله لقد خلت زوال نعمتي في جسه، ثم ضرب وغنى:

ألا يا صبا نجد متى هِجْتِ من نجد

لقد زادني مسراك وجدا على وجد

أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى

على فنن غض النبات من الرند

بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن

جليدا وأبديت الذي لم تكن تبدي

وقد زعموا أن المحب إذا دنا

يمل وأن النأي يشفي من الوجد

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا

على أن قرب الدار خير من البعد

فوالله لقد خلت كل شيء في الحضرة يتغنى معه حتى الأبواب والستور، ثم ضرب وغنى:

ألا يا حمامات اللوى عُدن عودة

فإني إلى أصواتكن حزين

فعدن فلما عدن كدن يمتنني

وكدت بأسراري لهن أبين

وعدن بقَرقار الهدير كأنما

شربن حميا أو بهن جنون

ولم تر عيني قبلهن حمائما

بكين ولم تدمع لهن عيون

ثم ضرب وغنى:

قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى

وقل لنجد عندنا أن يودعا

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية أن تصدعا

فليست عشيات الحمي برواجع

إليك ولكن خل عينك تدمعا

وأعذر فيها النفس إن حيل دونها

وتأتي إليها النفس إلا تطلُّعا

فوالله لقد تغنى كل شيء معه بالحضرة، حتى النمارق والوسائد وقميصي الذي على بدني، فقال: يا أبا إسحاق! هذا الغناء الماخوري، تعلمه وعلمه جواريك، ثم وضع العود من حجره وقام إلى الدار فلم أره، فدفعت أبواب الحرم فإذا هي مغلقة، فقلت: ويحكن هل سمعتن ما سمعت، أو رأيتن ما رأيت؟ قلن: نعم! سمعنا وأعدن الأصوات على وقد لقنها، فسألت الحجاب عن الرجل، فقالوا لي: لم يدخل عليك أحد حتى يخرج، فأمرت بدابتي فأسرجت فركبت من فوري إلى دار الخليفة واستأذنت، فلما رآني قال: ألم تنصرف آنفا على نية المقام في منزلك والخلوة بأهلك، قلت: يا سيدي، جئت بغريبة، وقصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها، فضحك حتى رفع الوسائد برجليه، وقال لي: كان نديمك اليوم أبو مرة، وددت أنه لو متعنا بنفسه كما متعك.

واشتهر إبراهيم بهذا الطريق واشتهته الناس فلم تبق جارية لقنته من إبراهيم إلا زيد في ثمنها، قال اللاحقي:

لا جزى الله الموصلي أبا اسـ

ـحاق عنا خيرا ولا إحسانا

جاءنا مرسلا بوحي من الشيـ

ـطان أغلى به علينا القيانا

من غناء كأنه سكرات الـ

ـحب يصغى القلوب والآذانا

(قوله: قلنسوة لاطئة: غطاء لازق بالرأس. السكب نوع من الثياب. وفي اللهجة نقول: لابس سكبه أي انه يلبس ثيابا أنيقة. رونق الضحى: اشراقه، والرند: شجر طيب الرائحة. أبو مرة: كنية إبليس عندهم).

والمتتبع لما جاء في هذه الحكاية يجدها متنوعة، وغريبة في الوقت نفسه. إضافة إلى ما ترتب عليها من آثار دلتنا عليها الأبيات الأخيرة التي ذكرت تأثير ما رأه أو تخيله إبراهيم الموصلي على أثمان الجواري بسبب تعلمهن ما ألقاه عليهن الموصلي من ألحان سمعها كما ادعى عن ابي مرة.

ولو أننا أردنا الاستمرار في اختياراتنا من كتابي القيرواني لما كفانا وقت ولا ورق، لأن ما قدمه لقارئيه كثير ومتنوع، يشد إليه كل من له رغبة في متابعة الطرائف والنوادر، ومن أجل ذلك فإننا نكتفي بما تقدم.

***

لم تقف رواية الطرائف عند ذلك الزمن البعيد الذي اغترف القيرواني من آثاره ما أمتع قراءه قديما، وما يمتعنا في زمننا هذا، فإن روح الدعابة والرغبة في التعبير

عن المدهشات لا تزال تسيطر على كثير من الكتاب والشعراء، ولذا فإننا ننتقل إلى عصرنا الحالي لنقدم مثالا لما وجدناه من أعمال لها هذه الصفات.

نقتبس هنا قولا من أقوال أحد الشعراء المحدثين هو الشاعر الكبير علي الجارم الذي عرف عنه أنه من أقدر الشعراء والكتّاب المعاصرين. وأنه متخصص في آداب اللغة العربية، وقد تخرج في كلية دار العلوم سنة 1908م، ثم أرسل في بعثة دراسية إلى بريطانيا، عاد بعدها إلى وطنه، والتحق بالعمل منتقلا بين عدة وظائف، من بينها أنه كان وكيلا لكلية دار العلوم التي تخرج فيها. وبقي في منصبه هذا حتى سنة 1942م حيث تقاعد، وتفرغ للنشاط الأدبي والاجتماعي.

له ديوان شعر كبير، وروايات تاريخية مشهورة، كانت منها رواية: هاتف من الأندلس، التي كانت مقررة على الصف الثاني الثانوي في الكويت - قديما - وقد أسعدني الحظ فقمت بتدريسها في سنة من تلك السنين.

مما روي عنه أنه شاهد في سنة 1910م في لندن مظهرا من مظاهر الضباب الذي يخيم على تلك البلاد في فترة الشتاء، وكانت كثافته قد زادت عن الحد يوم رآه في ذلك اليوم المظلم الذي صار المبصرون يضلون طرقهم فيه لشدة الظلمة. ولقد شاهد بعض العميان يقودون المبصرين خلال ذلك الوقت، فكتب هذه الأبيات معبرا فيها عن مشاهدته:

أبصرتُ أعمى في الضباب بلندن

يمشي فلا يشكو ولا يتأوه

فأتاه يسأله الهداية مبصر

حيران يحبط في الظلام ويعمه

فاقتاده الأعمى فسار وراءه

أنّى توجه خطوُهُ يتوجه

وقد توفي الجارم في سنة 1948م، تاركا آثارا أدبية وتعليمية كثيرة، إذ كان مشاركا في تأليف عدد من كتب تعليم اللغة العربية في النحو والبلاغة، وكان لها أثر كبير في نفع طلاب ذلك الزمن لدقة عمله، ومقدرته على إجادة عرض موضوعاتها بحيث تصل إلى أذهان التلاميذ بكل يسر.

***

كان ما ورد آنفا لشاعر من شعراء عصرنا سار على الطريق الذي سار عليه بعض الشعراء العرب من قبله حين كانوا يقولون الشعر على أنماط متعددة منها ما هو من شعر الطرافة الذي قدمنا أمثالا له. وفي الكويت عندنا شعراء لا يترددون في خوض هذه التجربة فيقدمون - أحيانا - بعض القصائد أو المقطّعات التي تحتوي على ما يثير البهجة من حيث احتوائها على موضوعات تثير الأنس في النفوس، وتجدد النشاط في مرتادي المجالس.

ولقد سبقت الإشارة في مناسبات سابقة إلى الشاعر الكويتي صقر الشبيب الذي كتب قصيدة عرضناها في إحدى المناسبات وهي التي جاءت في ديوانه تحت عنوان: «عنز تأكل الكُتُبا» يذكر عنزا فلت زمامها فانطلقت في بيت صاحبه ممن يحب الكتب ويحرص على جمعها وقراءتها، فيورد في أبياته حكاية هذه العنز التي كانت البيوت الكويتية القديمة لا تخلو من أمثالها. والقصيدة التي قالها الشاعر قصيدة طويلة جدا بدأها بقوله:

كلوا عنزكم من قبل أن تفني الكتبا

وتحدث أمرا ثانيا يُسخط الصحبا

وفي آخرها تتحدث العنز إلى البشر طالبة منهم العناية بها وبكل من هم من فصيلتها:

فإن لم تخافوا الله فينا ترفقوا

فلا تأمنوا من سوء ما جئتم الغِبَّا

فإن الذي ولاكم اليوم أمرنا

وأجرى لكم أقواتنا لبنا عذبا

سيجزيكم عنا غدا مثل فعلكم

فلا تأمنوا عكس الجزاء ولا القلبا

ومن شعراء الكويت الذين أجادوا في مثل هذا النوع من الشعر الشاعر الخال داود سليمان الجراح الذي قال عددا من القصائد على هذه الشاكلة منها قصيدته التي جعل عنوانها: «النعال المسروقة»، يتحدث فيها عن حادث مر به وهو يصلي في أحد مساجد الكويت وعندما انتهت الصلاة لم يجد نعاله في مكانها، ولكنه وجد نعالا أخرى تركها صاحبها له، ومضى بنعال الشاعر. فروى هذه الحكاية التي حدث له فيما يلي بعد المقدمة:

وبعد، فالداعي لذي الأبيات

قضية مشهورة الصفات

معروفة بقصة النعال

فاسمع رعاك الله ذو الجلال

لما الصلاة قضيت وانصرفوا

كل مضى لداره منحرف

قمت سريعا قاصدا نعالي

إذا بها قد بدلت بالحال

أعطيتها في وقتها بلالا

وقلت خل هذه النعالا

عل إذا أصبح في النهار

يأتي بها فورا بلا إنكاروبلال هو مؤذن المسجد، وقد عرفنا من اسمه أن الصلاة كانت في مسجد البدر المشهور في حي القبلة.

عاد الشاعر بعد ثلاثة أيام يسأل عن نعاله، فقال له المؤذن لم يأت أحد بنعال، ويبدو أنه قد سلبها، وأكمل الشاعر: فلبست ما تركته عنده وسرت بها، ولكنني ما إن سرت حتى اكتشفت أن قد:

خلف لي الخبيث نعلا باليه

وارثها من العصور الخالية

ولما رأى ذلك فإنه لم يزد عن قوله:

اخرجتها محترما للجامع

أودعتها زاوية في الشارعولم يسأل عنها بعد ذلك بل اشترى نعالا غيرها، وترك عقوبة السارق على الله.

ثم يختم القصيدة بقوله:

وهذه قضية النعال

جئت بها بأفصح الأقوال

انصح فيها كل شهم ماجد

أن يحفظ النعال في المساجد

عن كل سراق بزي خاشع

للنهب والسلب أتى للجامع

***

هذه نُبذة مختارة، ولولا ضيق المجال لأمكننا نقدم المزيد من أمثالها. ولكن ما جاء فيه الكفاية، كما أن فيه الدلالة على كل ما أردنا الإشارة إليه عندما تطرقنا إلى هذا الموضوع.

Advertisements
Advertisements