- سيف الحموري - الكويت - الاثنين 18 أبريل 2022 07:48 مساءً - أخيراً صدرت السَّيفيات.. الديوان الجامع بتوجيه من عبدالعزيز البابطين عبر مؤسسته الرائدة في البحث عن الإبداع والمبدعين
- الديوان يوثِّق نماذج لأحداث مرت بالكويت وعلاقات الشاعر بالناس واهتمامه بالتعليم والمعلمين وأنشطة المدارس ودائرة المعارف
- شعر السيف ذو نغمة عربية شريفة اهتم بالدعوة إلى المؤازرة بالنفس والمال اعتماداً على أن الوقوف مع أمة العرب وقوف مع أنفسنا
- الشاعر السيف وثّق أمطار 1954 وأول إنتاج للفنان معجب الدوسري والموسم الثقافي في 1955 وتجاوب مع مشروع بلدية الكويت الإنساني
- الروح الوطنية صبغت شعر السيف.. اهتم بهموم الكويت وفرح لأفراحها وعبّر عن كل ذلك بشعر سهل التناول جميل العبارة
ختام فصول الأوراق الكويتية سيتضمن حديثا عن شاعر كويتي قدير، ملأ البلاد بشعره، وشارك في كثير من المناسبات الوطنية والدينية، يلقي فيها شعره فينال إعجاب الحاضرين. وقد تناول في شعره كثيرا من الموضوعات المهمة حتى إنه لم يترك مجالا من مجالات الحياة دون أن يتطرق إليه.
وقصائده تتراوح بين المقطعات التي تحتوي على أبيات قليلة يحكمها موضوع واحد، والقصائد الطويلة التي يقتضي موضوعها الإطالة وطول النفس. على كل حال فإن هذا الرجل الذي استحق إعجاب الجميع يستحق أن نفرد له فصلا من فصول «أوراق كويتية» هو هذا الفصل.
دون أن ننسى أن نضيف - كالمعتاد - حديث اللهجة الكويتية، ومن هنا تأتي البداية:
كلمة عن السيفيات
وأخيرا صدرت السّيفيات الديوان الذي كان حلمنا القديم..
وكان حلم الشاعر راشد السيف، الذي كان يتمنى تحقيقه، ويتابع جمع قصائده، ثم يقوم بنسخها بخط جميل، لقد أمضى عددا من السنين وهو يقول الشعر في شتى المناسبات، وكان يشارك إخوانه شعراء الكويت من معاصريه في كل محفل، وكان حريصا على شعره فلم نره قد ضيع شيئا منه، ولقد كان إلى حين وفاته، كنزا محفوظا لم تمتد إليه يد فتنقص من قدره أو من قصائده.
والآن ونحن نعلن الفرح بصدور ديوان السَّيفيات، بموجب العنوان الذي اختاره لشعره، فإننا ينبغي أن نذكر بالتقدير للأخ الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين الذي أمر مؤسسته مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري فصدعت بأمره، وقامت بإعداد هذا الديوان الكبير للنشر والطبع كما هي العادة لدى هذه المؤسسة الرائدة التي استمدت من رئيسها قوة العمل فدأبت على البحث عن الإبداع والمبدعين.
الأستاذ الشاعر راشد السيف أستاذي منذ بدأت أخطو خطواتي الدراسية الأولى في المدرسة النظامية الثانية في الكويت وهي المدرسة الأحمدية، وقد كان هذا الرجل الإنسان هو ناظرها، وكان حريصا علينا نحن الطلاب يمدنا بالمعلومات ويحنو علينا.
بعد سنة أمضيتها في المدرسة الأحمدية انتقلت إلى مدرسة المثنى، وانقطعت صلتي به فترة طويلة كنت خلالها أتابع شعره الذي يلقيه في المناسبات. وفي سنة 1954م التقيت به من جديد في مقر جمعية الإرشاد الإسلامي التي كان حريصا على حضور ندواتها وإلقاء شعره في حفلاتها، وقد كان لقائي به في هذه الفترة مثمرا، عرفت من خلاله مدى اهتمامه بجمع شعره، من أجل إصداره في ديوان. ذكر لي أنه ينوي أن يُطلق عليه اسم السيفيات تيمنا بديوان أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أطلق عليه اسم الشوقيات.
وقد بدأ عندي الاهتمام بهذا الأمر، حتى اتفقت معه على اللقاء في بيته عصر كل يوم لقراءة الشعر بكامله، وقد تم ذلك، وفي هذه الجلسات عرفت أنه ليس من الشعراء الذين لا يهتمون بما يكتبون، بل هو يحتفظ بكل بيت قاله منذ بدأ السير في طريق الشعر.
وانقطعت الزيارات لسببين: أولهما أن قراءة الشعر كله قد تمت، وثانيهما أنني في سنة 1957م سافرت إلى مصر من أجل الدراسة في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.
ولم ينقطع اتصالنا فقد صار يراسلني، ويرسل إليّ أشعاره، ومن هذه الأشعار ما نظمه خاصا بي، وقد أرسل قصيدته الأولى في رثاء الخال الشاعر داود سليمان الجراح، والثانية في رثاء والدتي، ثم أرسل قصيدة ثالثة يعتب عليّ فيها لأنني تأخرت في الرد عليه، وقد رددت عليه بقصيدة أقول فيها إنني لم أتأخر عنه لولا انشغالي في الدراسة. وفي سنة 1958م علم أنني كتبت قصيدة مطلعها:
ودّع الذكرى وخل الشجنا
حسبنا يا قلب هما وضنا
رب ذكرى تملأ القلب أسى
لزمان فاض أنسا وهنا
وكأنه أحس بي وأنا أكتبها، ثم تفاعل مع ما كتبت فنظم قصيدة له على وزن وقافية قصيدتي يقول فيها:
عبقري الشعر يشكو الشجنا
لم يكن غيري به مثلي عنَى
وهو في هذا مثل الخال إبراهيم سليمان الجراح الذي اطلع على قصيدتي فكتب أخرى على نمطها، ومطلع ما قال:
رب لفظ رق حتى فتنا
سحر العين وسر الأُذنا
ومرت سنوات أخرى والتقيت به مرارا وإن كان العمل يأخذني كثيرا ويصدني عن لقائه دون قصد مني، ولكننا - على كل حال - لم ننقطع، لأنه ليس من الذين ينسون علاقاتهم مع أصدقائهم، ولقد كنت طوال الفترات السابقة لا أعده إلا أستاذا لي أستفيد منه في جوانب شتى، وهو يراني قد تغيرت بتغير الزمان فكان يقول لي: تلامذتنا أساتذتنا. وإذا عرف القارئ كل ذلك عني وعن الشاعر راشد السيف فسوف يعلم سبب سروري بصدور «السيفيات» ومدى هذا السرور، فقد تحققت لي وللشاعر آمال كنا نأملها معا إلى أن استجاب الله لنا، فتكرم الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين بالطبع والنشر، فله الشكر على ما قدم للكويت وللشعر، ولي خاصة في هذا المجال.
هذا، ومن يطلع على ديوان «السيفيات» فإنه سيرى في قصائده كثيرا من الأمور التي تضع أمام عينيه نماذج للأحداث التي مرت بالكويت، وسيرى مدى علاقاته بكثير من الناس في داخل الكويت، وخارجها، وباعتباره معلما، نلاحظ مدى اهتمامه بالتعليم وبالمعلمين وبالأنشطة التي تقوم بها المدارس أو دائرة معارف الكويت. وفي شعره أيضا نغمة عربية شريفة تحدث فيها عن كل ما يجري في بلاد العرب منذ حرب طرابلس الليبية ضد إيطاليا إلى حرب بورسعيد المصرية في سنة 1956م إضافة إلى اهتمامه بالدعوة إلى المؤازرة بالنفس والمال لأنه يرى أن وقوفنا مع أمة العرب إنما هو وقوف مع أنفسنا.
وهنا الكثير مما ينبغي أن يقال عن شعره، رحمه الله، ومما تمكن الإشارة إليه من ذلك ما يلي:
هطلت في أواخر سنة 1954 م أمطار غزيرة على الكويت كان لها أثرها الضار على الناس، فقد هدمت كثيرا من المساكن، وتشرد جراءها الأهالي في كل مكان، وقد كان موقف المقتدرين منهم وموقف الحكومة من أهم ما أدى إلى تخفيف وقع الكارثة التي ألمّت يومذاك.
لاحظ الأستاذ راشد السيف أن أحد المتمكنين قد قام في وسط الفاجعة بإقامة حفل أراد به إرضاء بعض رؤسائه، وكان في ذلك الحفل ما يتنافى مع الموقف الوطني في مثل تلك الظروف فكتب له:
السحب تنذر بالبروق نشاطنا
لنزول ماء فوق أرض المحفل
سوء النتيجة لا يُشكك عاقلا
فيها لأن ظروفها لم تقبل
إن ارتجالك في الأمور يدلنا
حقا على الفشل الذريع الأعجل
هكذا نراه يستنكر الفرح في يوم حزن وطني سببته تلك الأمطار التي لم تترك أحدا إلا أضرت به، وهذا دليل على حب الشاعر لوطنه وبني وطنه.
وفي مقابل الأسى فقد فرح شاعرنا الشيف عندما شاهد إنتاج أول فنان كويتي هو المرحوم معجب الدوسري، وكان ذلك الإنتاج قد عرض في معرض للرسم في المدرسة المباركية، وكان الفنان الرسام قد تخرج لتوه من دراسة الفنون في أحد المعاهد العالية في القاهرة، وابتدأ بعد ذلك مباشرة التدريس في المدرسة التي أقيم بها المعرض. قال الشاعر راشد السيف في ذلك:
معجب أنت وأنت المعجب
رضي القوم به أم غضبوا
أنطق الحق لساني بالذي
يدحض الباطل أو قد يسلب
ثم يقول:
أنت رسام الكويت الوطني
شهد الأعداء فيمن كذّبوا
ويُسرّ راشد السيف بالنشاط الثقافي الذي جرى في الكويت في سنة 1955م، وذلك يتمثل في إقامة دائرة المعارف للموسم الثقافي الذي استحضرت من أجله عددا من أفاضل العلماء والأدباء، وأتاحت الفرصة للناس كي يستمعوا منهم مباشرة إلى ما يقدمونه من محاضرات بعد أن كانوا يقرؤون لهم دون أن يروا أي واحد منهم. ولقد استمر الموسم الثقافي أكثر من سنة، وقد تحدث في قصيدته التي جاءت بعنوان «حول الموسم الثقافي» حديثا عاما عن العلم وفوائده والجهل ومضاره، فقال في بعضها:
أين من يحمل علما هادفا
نحو ما فيه علاج للعنيد
لم يكن كالجهل فيما قد مضى
معول للهدم في عصر جديد
وهو - في وطنياته - يهتف للعلم الكويتي قائلا:
رمز الحياة فرفرف أيها العلم
للشعب بين يديك السيف والقلم
كراية من دم الأجداد يرفعها
من يطلب الثأر في الأعداء يقتحم
وتجاوب راشد السيف مع مشروع قامت به دائرة بلدية الكويت في 1950/11/15م بمشروع إنساني مهم أرادت به درء غائل الحاجة عند بعض المحتاجين في وقت كان قيامها فيه بمثل هذا المشروع عملا جليلا لتفاقم خطر الفقر خاصة عند العمال، وكان هدف المشروع هو جمع مبلغ من المال يوزع على هؤلاء المحتاجين، وفق نظام أقرته هذه الدائرة، وقد أحس الشاعر بقيمة هذا العمل، فكتب يستحث الناس على التبرع للمشروع، ويشكر الجهة التي دعت إليه، ويأمل في أن يكون هذا العمل الوطني هدفا دائما للمواطنين يسعون إلى الوصول إليه عن طريق توجيه أنظارهم إلى كل محتاج، ومن ذلك يقول شاعرنا:
لا تتركوا عاملا ضاقت مذاهبه
ولم يجد مسلكا للرزق يتصل
لا يسأل الناس إنقاذا لفافته
أوصى به الله والقرآن والرسل
ولا ينسى راشد السيف أنه معلم، فهو ينحاز دائما إلى صف المعلمين، ويذكر عملهم، ويثني عليهم، ويرى أن شكرهم فضل يحتمه علينا ما يقومون به من جهود واضحة في تعليم الأجيال، وإكرامهم أمر تحتمه النتائج المهمة التي نجنيها من تلك الجهود بحصول الوطن على أبناء بررة متعلمين يؤدون واجباتهم تجاهه، ويعملون في شتى مراكز العمل فيه، فهم الذين يقدمون غذاء العقول، وهو غذاء للمعلمين فضل في الإرشاد إليه. وهو إلى جانب ذلك كله يقول:
لولا المعلم ما استقلّت أمة
كلا ولا سارت على الأحكام
لولاه ما كان التقدم سالكا
نهج التجدد للعلا بنظام
لولاه ما رُفعت لحق راية
في الشرق أو في الغرب عن إرغام
ثم يوجه حديثه إلى رجال التعليم، ويقول لهم أهلا وسهلا بكم يا رسل المعرفة، وإنني أقدم قصيدتي هذه وأنا:
لا غاية أرجو الجزاء لنيلها
غير الوفاء لواجب الإكرام
أهلا وسهلا فاقبلوا يا إخوتي
بعد الثناء تحيتي وسلامي
وفوق هذا، فإن الشاعر راشد السيف يعتز بوطنه، وهو يوقع بإمضائه - شعرا - لتأكيد هذا الاعتزاز فيقول:
قد امضى بنظم راشد السيف قائلا
بلادي «كويت» مسقط الرأس والذرا
هو الفرد هل تحوي الجزيرة مثله
كريما رعى حق الضعيف فشمرا
ينادي تعالوا، قائلا: إن دارنا
بها ملجأ يؤوي فقيرا تحيرا
هذا هو تأثير الروح الوطنية في شعر شاعرنا السيف، وهذا ما قاله في حب الوطن بصورة مباشرة أو غير مباشرة فهو يهتم بهموم الوطن ويفرح بأفراحه ويعبر عن كل ذلك في شعر سهل التناول، جميل العبارة.
وهو إلى ذلك لا يترك الاهتمام بأمته العربية، ولا بما يحدث في العالم من حوله، فكأنه كان آلة تسجيل ولكنها من لحم ودم تسجل كل ما يمر بها من أحوال الدنيا من حولها. فهو - على سبيل المثال - يغني للشباب العربي في نشيد جميل هو أول المختارات التي وردت في الكتاب الذي صدر عنه. ويتحدث عن الاعتداء الثلاثي الشهير الذي جرى على مصر في سنة 1956م، وأضاف إلى هذه القصيدة قصيدة أخرى في الموضوع نفسه، وقد خصص الثانية لمدينة بورسعيد فقال فيها:
الحرب في بور سعيد
حرب لها شاب الوليد
حرب أراد بها الفنا
من كان جبارا عنيد
لكنها صمدت فلم
تخضع لنار من حديد
الطائرات بجوها
والسفن في بحر تميد
ثم اهتز وجدان الشاعر عندما تم الاتفاق بين مصر وسورية فنشأت بينهما وحدة اندماجية تحت اسم: الجمهورية العربية المتحدة، وعبر عن فرحته بتأميم قناة السويس.
وتذكر قبل ذلك كله الثورة الليبية التي قامت في طرابلس ضد الاحتلال الإيطالي فقال عن تلك البلاد العربية، وفي تلك الظروف الحالكة التي تعيشها:
تصيح غياثا ليتني كنت عندها
أجود بنفسي لست بالمال أقنع
فيا ضيعة الإسلام إن دام وهنهم
على ضيعة الأمال والحق يسمع
ومضى يتحدث عن أعمال الجنود الطليان المخزية فيقول:
كفاكم هوانا أن تجر نساؤكم
على غير ما تهوى من الخزي تجمع
وكم مسجد للخمر أصبح معهدا
وكم قتلوا من ساجد قام يركع
والقصيدة مؤثرة، وهي أيضا ذات دلالة على اهتمام الشاعر بوطنه العربي كله، فعلى الرغم من بعد المسافة في ذلك الوقت بين الكويت وليبيا، وصعوبة الاتصالات، إلا أنه لم يفوت فرصة التعبير عن ثورة طرابلس التي اهتز لها العالم في ذلك الوقت لطغيان المستعمر وبسالة المواطنين.
وكانت الثورة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا، قد بدأت بقيادة المجاهد عمر المختار في سنة 1926م، واستمرت حتى قبض عليه وأعدم بعد بضع سنوات من قيام الثورة.
وبعد، فهل اكتفى راشد السيف بما قدم عن وطنه وعن أمته العربية؟ وللرد على هذا السؤال إجابة واضحة نجدها في قصيدتين من شعره كتبهما عن مناسبة عالمية مهمة وهي إطلاق روسيا لأول صاروخ إلى الفضاء، وقد قال في ذلك قصيدتين أولهما تحت عنوان «الآية الصاروخية» والثاني تحت عنوان «هل يكون العقل والعلم معا» وإذا علمنا كما هو واضح في «السيِّفيات» كثرة شعره وامتداد حياته واهتمامه بالكتابة حول كل موضوع يستثير همته، فإننا نجده شاعرا جامعا لأفضل صفات يمتاز بها شاعر.
هذا، ومن أغرب ما يمكنني أن أقدمه بصفته نموذجا من نماذج شعر أستاذي راشد السيف هذا الذي يأتي هنا، وله حكاية:
كنت في اليوم الحادي والثلاثين من شهر سبتمبر لسنة 1958م في مصر طالبا بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة. وقد تحركت بي العاطفة يوم ذاك فكتبت قصيدة أرسلت نسخة منها إلى هذا الشاعر المجيد وما كنت أظن أنه سوف يجيبني عليها ولكنه فعل. قلت فيها:
ودع الذكرى وخل الشجنا
حسبنا يا قلب هما وضنا
رب ذكرى تملأ القلب أسى
لزمان فاض أنسا وهنا
وليال قطعت من دونها
رغم ما نلقاه أسباب المنى
وزمان باسم الثغر به
صفت الأيام والدهر حنا
أصبحت كالطيف يأتي عابرا
يجلب الآلام والهم لنا
ورد بقصيدة قالها في اليوم السادس عشر من شهر يناير لسنة 1959م، وقد جاء فيها:
ودع الذكرى بمن قد نقضوا
عهد وُد قام فينا زمنا
أيها الباكي على ما قد مضى
ليس للشكوى محل هاهنا
كلنا في الهم لا شك سوا
غير أن الصبر حلو المجتنى
ما مضى فات وهذا حاضر
خطر يلغي به الحر العنا
وكانت قصيدة طويلة وجميلة عبر فيها عن مشاعره، وأبانت مقدرته الشعرية التي لا شك فيها، وقد سبقت إشارة سريعة إليها في البداية.
وهذا ما أردت الإشارة إليه للدلالة على اهتمام الشاعر بمن حوله، وجودة شعره، وصلتي به.
حول اللهجة الكويتية
هذه آخر حلقة من حلقات «أوراق كويتية» ففي نهايتها تتم فصولها الثلاثين عددا. وهذه - إذن - آخر فقرة يكون فيها الحديث حول اللهجة الكويتية. وقد أحببت أن تكون فقرة مميزة تحلو لكل من يطلع عليها، وقد رأيت أن أحلى ما يمكن أن نقدمه هو الشعر النبطي الممتع الذي نستطيع أن نستخرج منه كثيرا من ألفاظ اللهجة الكويتية ذات الأصل الفصيح، ونحن في الوقت نفسه نستمتع بما نقرؤه منه.
لقد قرأت لشعراء نبطيين كثيرين أكثرهم يجيدون الشعر، ويُعجبون من يستمع إليهم حين ينشدونه، ولكني أرتاح كثيرا إلى شعر واحد من أبناء الكويت هو حمود الناصر البدر. الذي شاع شعره في آفاق الكويت وأحب الناس تداوله بينهم لما فيه من رقه، ولما يحتوي عليه من معان راقية تلفت الأسماع إليه.
ولد الشاعر حمود الناصر البدر في الكويت سنة 1870م، وكان من سكان حي القبلة، وقد سمي الموقع الذي نشأ فيه باسمه فقيل: براحة حمود الناصر البدر (البراحة هي الموضع المتسع بين البيوت)، وهو من أسرة كويتية كبيرة، ووالده أحد تجار اللؤلؤ البارزين.
أجاد هذا الشاعر في شعره كثيرا، وله كثير من القصائد التي غناها المغنون وكانت بينه وبين الشاعر عبدالله الفرج صلة.
وقد توفي في سنة 1915م.
وقد اخترت قصيدة من قصائد هذا الشاعر المبدع، وهي قصيدة ذات هدف غزلي بحت، وتحتوي على شكوى مرة من المحبوب وجفائه، وهو يوجه هذه القصيدة إلى اثنين من أصدقائه. والقصيدة مكونة من اثنين وأربعين بيتا بدأها بقوله:
يا بو فهد ويلاه من تيهة الراي
من علة ما فاد فيها التداوي
ينادي في البداية أحد الصديقين لكي يعرض له معاناته ثم يواصل:
يا ويح قلبي امْنِ الهوى، منه بلواي
يا حسرتي يا ليت ماني هواوي
يا حسرتي يا ليت ماني هواوي
ليتي امْصِدٍّ عن مجيه إبممشاي
مِتْنَزح ما جيت له بالحراوي
امداوم الراحة على الزور واصباي
لا غرني ظني وحسن التساوي
أنا هقيت وقلت قضبي ابيمناي
الحقْ إلغايات الهوى بالمناوي
غرير ما أدري في الهوى غاية امنايْ
يهوى ولا ياوي ابعطب المهاوي
ظنيت ختمي بالهوى مثل مَبْداي
وقلت الغضي لو صَدْ يرجع وياوي
أخلَف حسين الدل ظني ومعناي
أحرب أوجّهْ حال محرب سماوي
من فوق ما هو عامل الضد وياي
ومخلِّبٍ قلبي ابمخلب نداوي
تمرني خيله سريعات حمَّايْ
ويفوت معلق حربته بالنخاوي
يصفط وكنه شارب بارد المايْ
ملحوم يكسي بالمنايا كساوي
ساعة حذفني شايل داي باردايْ
عذب السجايا ما رحم حال شكوايْ
صاير جساوي كن قلبه صفاوي
وقبل أن ينهي هذا الشاعر قصيدته، يعبر بثلاثة أبيات عن مشاعره تجاه المحبوب الذي صد عنه، وقطع صلته به، فيقول:
عنده خبر حالي ولا هو بْيِحُتَايْ
ما احْدٍ سواتي بالمحبهْ شقاويْ
غيري ينال ابرودة القاع وافيايْ
ظِلٍّ لك الله يا ابن مزيد عذاويْ
وَنَا على مشطون لوح من السّايْ
عابر إبغبَّات تِضِيع الهقاوي
والآن وبعد ما اخترنا ما تقدم من هذه القصيدة الجميلة فقد آن أوان بيان معانيها ومقارنة بعض ألفاظها باللغة العربية الفصيحة. ولكن التفصيل سوف يطول، ولذلك فهذه نُبَذٌ عن بعض فقراتها:
يشكو منذ البداية إلى صديقه أن قد حلت به علة لا ينفع فيها التداوي وهو العلاج بتناول الدواء، ثم يعلن فزعه مما يحس به قائلا: واحسرتي أي ما أشد حسرتي، ويضيف يا ليتني ماني هواوي، والهواوي لفظ معناه الشخص الذي يغلب عليه الهوى، وهو الولع بالحسان وحبهن، ويقول يا ليتني كنت صادا عن المحبوب ولم آت قريبا منه، لأنه لم يحفظ الود، وترك لي العذاب، ثم يرسم صورة جميلة حين شبه أثر الصد في نفسه، قائلا: إن قلبه أصيب بمخلب طائر من طيور الصيد، أو أن المحبوب صياد ماهر اشتد في إيذاء من يحبه، فهو يمر بخيله السريعة وحرابه الحادة، ويصيح منتخيا (يثير النخوة) كما كان المحاربون يفعلون، ثم يتوقف وكأنه لم يفعل شيئا بل لكأنه قد شرب الماء البارد، وقد حذفني بسهم من سهامه، ولكنه لم يجد حذفته فأصابني من الخلف إصابة جزعت لها لأنها أتت على غير توقع مني، دون أن يقدر لها موقعها.
وتأتي باقي الأبيات على هذا المنوال وفيها من الوضوح ما يكفي، ومن أجل ذلك نذكر هنا بعض ما ورد فيها من ألفاظ:
يا ويح: ويحي ويا ويحي لفظ يدل على الدعاء. وهو لفظ فصيح.
امصدٍّ: معناها صاد ولفظها هنا مُصِدْ، ومنها منطقة إمصده بقرب المرقاب، بهذا المعنى.
متنزح: تازح، مبتعد.
هقيت: ظنيت. وقوله قضبي ابيمناي: جملة يقصد بها أنه متأكد.
المناوي: الأمنيات.
غرير: غير مدرك. لا يدري نتائج الهوى الذي يودي بمن يحيه إلى العطب.
ياوي: معناها يرحم.
السجايا: الطباع والسجية لفظ فصيح بهذا المعنى.
جساوي: اي أنه من النوع القاسي، وصفاوي من الصفا الصخر. واللفظان فصيحان.
وفي الأبيات الثلاثة الأخرى التي وردت منفردة هنا:
لفظ يحتاي، بمعنى: يحتاج الفصيحة، وشقاوي: صاحب شقاء.
أفياي: جمع فَيْ، وهو الظل، واللفظ فصيح.
ولفظ عذاوي. من كلمة عَذِيّ، هي من ألفاظ اللهجة ومعناها: سائغ.
وآخر هذه الأبيات الثلاثة قوله: كل ذلك وأنا ممدد على ما يشبه لوحا من خشب الساج المعروف، وكان هذا اللوح يعبر بي غبات تخلف الظنون، والغبات جمع غبة، وهي مواضع غزيرة في البحر.
وهذا يكفي.