الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

الحكاية الشعبية.. عربياً وكويتياً.. بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - السبت 10 سبتمبر 2022 10:20 مساءً - أهل الكويت تداولوا الحكايات الشعبية على نمطين: عائلي والديوانية الصغيرة
  • الوالد يوسف الغنيم سجّل بصوته حكاية لحادثة جرت على الحقيقة وطبعت في كتاب ضمّ كل ما سُجّل تحت عنوان «حكايات بحرية وشعبية»
  • الشاعر إبراهيم الجراح تخيّل حواراً ومنازعة له مع قطّ شرس دأب على افتراس حمام المنزل ونظم قصيدة شديدة التماسك


بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

الحكاية الشعبية هي القصة التي تروى بين الناس أكثر من أن تكون نصا مكتوبا تنطبق عليه الشروط الأدبية المطلوبة، وكان تداولها في الزمن القديم سابقا على جميع وسائل النشر المتعارف عليها الآن، وهي التي تتابع ورودها فأغنت عن المتحدث الذي كان يتولى نقل الحكايات الى الجالسين حوله في الأماكن التي يتاح لهم فيها سماع ما يودون سماعه منها.

ومن المعروف ان الحكاية الشعبية لم تكن مقصورة على شعب دون آخر، وإن كانت موضوعاتها تعتمد على الخيال، او الوقائع التاريخية التي تمتزج به، ويكون انتشارها عن طريق الرواة فهم الذين ينقلونها من قطر الى آخر، ومن عصر الى عصر، وذلك الى ان طبعت الروايات المأثورة للقصص الشعبي، وهي التي عرفها ابناء الوطن العربي كغيرهم من ابناء الاقطار الأخرى، وقد انتشر منها:

- ألف ليلة وليلة.

- الزير سالم.

- عنترة بن شداد.

- تغريبة بني هلال.

- السندباد البحري.

- بدائع الزهور في وقائع الدهور.

- تودُّد الجارية مع بديع الزمان.

وقد تخصصت مطابع ومكتبات بنشرها، وكان توزيعها يعم كل بلاد العرب بما فيها الكويت، حيث نجدها لدى باعة الكتب القدماء.

وقد علق الدكتور عبدالحميد يونس وهو من كبار المهتمين بموضوع المأثورات على سبب تسمية هذا النوع بالحكاية الشعبية فقال في هذا الشأن:

«إنما كان (هذا ا لاسم) استجابة مباشرة للإحساس بالحاجة الى ضرب من التمييز بين اطار قصصي ادبي وآخر يتسم بالحرية والمرونة ومسايرة العقول والأمزجة والمواقف».

بدأ الأمر - شعبيا - بذكر الأساطير التي تروي ما ليس معقولا من الأحداث، وذلك لأنها ملأى بالتهاويل التي لا تنطبق على واقع معين.

ثم اتصل ذلك بالملاحم المعبرة عن الوقائع التي تتحدث بين المجموعات البشرية، وتحكي ما يقوم به ابطال بعض الشعوب، حين نراهم يقتحمون العقبات ويتخطون الصعاب، كما نراهم يخوضون حروبا تكاد تكون فردية هي التي رفعت من شأن هؤلاء الأبطال، وأبقت ذكرهم لدى مستمعي الحكايات في كل مكان، ولذلك فإننا نرى أكثر ما يروى من ذلك هو ما يتصل بأفراد مثل عنترة بن شداد، وغيره.

ومع ذلك فقد عرفت حكايات كثيرة عن اساطير لا أساس لها من الصحة، بعضها قديم العهد جدا، ينتشر في مواضع محددة، وليس له صفة الانتشار في غيرها، كما نجد حكايات تتميز بأنها تتحدث عن الحيوانات وهذه لها وضع خاص عند دارسي المأثورات الشعبية، وقد لاحظ هؤلاء ان الحيوان في الحكايات الاسطورية قد اتخذ صفة انسانية كالنطق مثلا، وأنشأت الحكاية فئة من الناس (خيالا) تدرك لغة الحيوان وتفهم مقاصده، وكان من أهم ما ظهر في أدبنا العربي مما يتصل بحكايات الحيوان كتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجمه عن الهندية عبدالله بن المقفع، وهو كتاب صارت له شهرة عالية في الأدب العربي، ولذلك فإن كثيرين من محبي الاطلاع يحرصون على اقتنائه وقراءته.

ثم تنوعت الحكايات الشعبية، فجاء منها ما له علاقة بالجن وعالم هذه المخلوقات الخفي، وما يدل عليه من أمور كما جاءت السير الشعبية التي تتحدث عن بعض الأبطال، وقد ذكرنا ما يدل عليها.

وجاءت - اضافة الى كل ذلك ـ الحكايات الخاصة بمن يطلق عليهم: الشطار، وهم الذين يقومون بأعمال خارقة يكتسبون بها قلوب عدد كبير من الناس، ويستميلونهم، ثم تأتي الحكايات التي يغلب عليها عنصر المرح، وتمثلها الروايات المنتشرة عن جحا وأمثاله من الابطال الذين اشتهروا بخفة ظلهم، من ذوي النوادر التي تعجب السامعين، فيرددون ذكرها بينهم.

ومن انواع الحكايات الشعبية ذلك النوع الذي يأخذ صفة الطابع الاجتماعي، بمعنى انه يشير الى امور اعتادها الناس في مجتمعهم، بعضها يحتوي على نوع من النكات، والثرثرات المتهكمة.

وتأتي ـ بعد ذلك ـ الألغاز، وهي وإن لم تكن من صنف الحكايات، إلا أن بعضها فيه طول يشبه ما يُرى في الحكاية، وفيه تركيب أشياء مختلفة مع بعضها بحيث تأخذ صورة ما يُحكى، ولا مجال هنا لتقديم أمثلة لها.

هذه هي الحكايات الشعبية بأنواعها، ولكننا نهتم في فصلنا هذا بما يتعلق منها بالمجتمع العربي بصورة عامة، وبمجتمعنا الكويتي بصفة خاصة.

ومن هنا ننطلق إلى الهدف.> > >ونبدأ بما يتعلق بالحكايات ذات الطابع العام المنتشرة في المجتمع العربي بأكمله.

فنقدم بذلك نموذجا من نماذج الحكايات التي يزخر بها كتاب «ألف ليلة وليلة» وهو كتاب معروف لدى الجميع، منتشر في كافة الاماكن، لايزال في الأيدي حيث تعاد طباعته في كثير من البلدان، بل ان له ترجمات كثيرة إلى لغات أخرى منها الفرنسية والانجليزية والروسية والألمانية والإيطالية والصينية وغيرها كثير.

وكانت من حكايات شهرزاد التي كانت ترويها للملك شهريار حكاية قصيرة لا بأس في ايرادها هنا، وهي ذات علاقة بما جرى لأحد معلمي الصبيان.

والحكاية لطيفة، وإن كانت في جزء منها تغضّ من مكانه أولئك الرجال الذين حملوا عبء تعليم الناشئة، وكانوا في الوقت نفسه على دراية تامة بكل أمور دينهم ولغتهم، كما يتبين من خلال الحكاية المروية ذاتها، تقول شهرزاد:

«ومما يحكى عن بعض الفضلاء أنه قال: مررت بفقيه في كتاب وهو يقرئ الصبيان فوجدته في هيئة حسنة وقماش مليح، فأقبلت عليه فقام لي وأجلسني معه، فمارسته في القراءات والنحو الشعر واللغة، فإذا هو كامل في كل ما يراد منه، فقلت له: قوى الله عزمك فإنك عارف بكل ما يراد منك.

ثم عاشرته مدة وكل يوم يظهر فيه حسن. فقلت في نفسي: إن هذا شيء عجيب عن فقيه يعلم الصبيان، مع ان العقلاء اتفقوا على نقص عقل معلم الصبيان.

ثم فارقته وكنت كل أيام قلائل أتفقده وأزوره فأتيت اليه في بعض الأيام على عادتي من زيارته، فوجدت الكتاب مغلقا فسألت جيرانه فقالوا: إنه مات عنده ميت، فقلت في نفسي، وجب علينا أن نعزيه، فجئت الى بابه وطرقته فخرجت لي جارية وقالت: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك.

فقالت: إن مولاي قاعد في العزاء وحده فقلت لها: قولي له ان صديقك فلانا يطلب ان يعزيك، فراحت وأخبرته فقال لها: دعيه يدخل، فأذنت لي في الدخول فدخلت اليه فرأيته جالسا وحده ومعصبا رأسه فقلت له: عظم الله أجرك وهذا سبيل لا بد لكل احد منه، فعليك بالصبر.

ثم قلت له: من الذي مات لك؟ فقال: أعز الناس علي وأحبهم إليّ. فقلت: لعله والدك، فقال: لا، قلت: والدتك، قال: لا، قلت: أخوك، قال: لا، قلت: أحد من أقاربك قال: لا، قلت: فما نسبته إليك قال: حبيبتي. فقلت في نفسي: هذا أول المباحث في قلة عقله، ثم قلت له: قد يوجد غيرها مما هو أحسن منها، فقال: أنا ما رأيتها حتى أعرف إن كان غيرها أحسن منها أو لا.

فقلت في نفسي وهذا مبحث ثان، فقلت له: وكيف عشقت من لا تراها؟ فقال: اعلم اني كنت جالسا في الطاقة وإذا برجل عابر طريق يغني هذا البيت:

يا أم عمرو جزاك الله مكرمة

ردي علي فؤادي أينما كانا

وعندما غنى الرجل المار في الطريق بالشعر الذي سمعته منه قلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها ما كان الشعراء يتغزلون فيها، فتعلقتُ بحبها.

فلما كنا بعد يومين عبر ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:

إذا ذهب الحمار بأم عمرو

فلا رجعت ولا رجع الحمار

فعلمت أنها ماتت، فحزنت عليها ومضى لي ثلاثة ايام وأنا في العزاء، فتركته وانصرفت بعدما تحققت من قلة عقله.ويتداول أهل الكويت الحكايات الشعبية فيما بينهم على نمطين، الأول منها هو النمط العائلي، حين نجد احد افراد العائلة من يجيد القراءة ممسكا بكتاب من كتب الحكايات التي ذكرناها آنفا، وقد تحلق حوله في وقت محدد من كل يوم أفراد أسرته، لكي يقرأ عليهم فصلا من فصول الكتاب الذي اختاره، ويستمر على هذه الحال الى ان ينتهي من قراءة كامل ما ابتدأ به، فيأتي لهم بكتاب جديد لجلسات أخرى يجلسونها لهذا الغرض.

وثاني النمطين هو أن تكون لبعض أبناء الحي (الفريج) ديوانية صغيرة تضم عددا متجانسا من الأصدقاء يقوم أحدهم بقراءة ما يراه مناسبا من كتب الحكايات، فيستمع اليه الجالسون، وتمضي الجلسة كما مر في النمط الأول. حكى لي المرحوم الأستاذ أحمد البشر الرومي عن واحدة من جلسات النمط الثاني فقال:

ـ بجوارنا ديوانية يلتقي فيها عدد من الأصحاب يستمعون في كل ليلة الى واحد ممن يجيدون القراءة، حيث يقرأ لهم قصة عنترة ابن شداد، وهو بطل شهير ومحبوب لدى متابعي سيرته.

انطلق الرجل في قراءته الى ان وصل الى الوقت الذي ينبغي له فيه ان يتوقف على ان يواصل في ليلة أخرى من لياليهم. وكان توقفه عند نقطة حاسمة، حيث تعرض عنترة الى ازمة بسبب تغلب عدوه عليه، وأسره له، ثم نقله الى السجن مربوطا بالسلاسل.

وعندما خرج الرجل لكي ينام، كان الوضع في الديوانية غير مستقر، اذ لم يعجب الصحب من روادها ان يتعرض بطلهم الى هذه النهاية، وصاروا ينحون باللائمة على قارئهم. ثم خرجوا جميعا الى بيته، وطرقوا عليه الباب، وانتظروا الى أن خرج إليهم وهو نصف نائم، وقد استغرب حضورهم، فسألهم: ما الخبر؟ فردوا عليه: نحن نراك تحاول النوم، فكيف تستطيع ذلك ونحن منذ خرجت من عندنا في ضيق شديد. نفكر في هذا البطل الذي تسبب أنت في سجنه.

وعبثا حاول الرجل ان يفهمهم ان ما قرأه لهم حكاية وهي لا تمتّ الى الحقيقة بسبب. وأن ما سوف يأتي منها سوف يكون فيه ما يغير ما حدث. ولكنهم أبوا عليه أن يقدم أي تبرير لما فعل، وطالبوه بالعودة الى الديوانية لكي يخرج عنترة من سجنه ثم يعود إلى بيته لكي ينام.وأذعن المسكين لهم، وجاء وهم يحيطون به إلى موقع لقائهم المعتاد وفتح الكتاب بين يديه، ثم قرأ:

ـ وشد عنترة السلاسل التي ربط بها حتى تقطعت كلها، فتحرر من قيوده، وقفز إلى الخارج حيث وجد حصانه مربوطا في جوار محبسه، فركب عليه، وذهب وكأن شيئا لم يكن.

فتهلل الحاضرون فرحين، وقالوا له: بارك الله فيك تستطيع الآن أن تنام، فقد أزحت عنا همّا ثقيلا.

هل لنا الآن ان نتحدث عن حكاية شعبية كويتية؟

نعم: وهذا هو ما اعتدنا عليه منذ بداية نشر هذه المسامرات، ولكن ما سنقدمه ليس كالحكايات التي تحدثنا عنها آنفا، وذكرنا انها ذات اتصال بالخيال، وتماثل الأساطير في بعض الأحيان، إنها حكاية لحادثة جرت على الحقيقة، يرويها والدي يوسف غنيم سليمان الغنيم، رحمه الله، وقد تم تسجيلها بصوته، ثم نقلت الى الورق كتابة، وطبعت ـ بعد ذلك ـ في كتاب ضم كل ما سجل له من احاديث، وقد صدر في العام 2015 تحت عنوان «حكايات بحرية وشعبية». تقول الحكاية:

هذه سفينة كويتية عليها بحارة (معلّين) من الهند، وكل من يخرج من الهند باتجاه الكويت نقول عنه: امعلّي، والذاهب الى تلك الجهات نقول عنه: سنَّان، كان هؤلاء معلين من كاليكوت هناك، وأتوا الى جوَّا (وكلاهما على الساحل الغربي للهند)، وتزودوا بالماء، ثم عبروا، وفي طريقهم هذا يأخذون عادة ما بين اثني عشر وخمسة عشر يوما الى ان يصلوا الى البر، وبعد تحركهم بخمسة أيام، وفي ليلة اليوم السادس، ارتفع الهواء وقوي، فصاروا يحاولون تفادي نتائج هذا الريح المفاجئ، وفي اثناء هذا الانشغال الذي عم الجميع سقط «المقدم»، وهو المجدمي في البحر، وهم لا يدرون بذلك، وصار تحت السفينة التي كانت من نوع البغلة، وهي طراز قديم من السفن كان يستعمل في الكويت قبل ان يصنع البوم الكويتي، وهي من السفن التي تستعمل في الهند.

وبعد ان هدأت العاصفة رتبوا امورهم، ونظموا حبالهم، وأرادوا الجلوس، لكنهم فطنوا ـ اخيرا ـ الى فقدان الرجل، وحزنوا عليه، وقالوا: لنا الخلف به من الله تعالى، كان الهواء شديدا على الرغم من ان حدته قد انكسرت، فاضطروا الى التوقف بانتظار الصباح، وهم يقولون لبعضهم: ربما نراه على ضوء الشمس، وفي الصباح لم يروه، وهم لا يدرون الحالة التي هو عليها، ولكنهم باتوا حزانى يفكرون بصمت.

وفي نهار الليلة التي سقط فيها المجدمي، جاءت بغلة اخرى في الطريق نفسه، فرأى الذي يمسك السكان رجلا يمد يده فوق الماء ويخفضها، فقال للنوخذة: هذا رجل يحاول ان يرينا نفسه بالتحرك على الماء بقدر ما يستطيع، فقال النوخذة: ما الذي يأتي بالرجل الى هنا؟ ولكن النوخذة تدارك الأمر فقال لصاحب السكان: تقول انه رجل؟ ثبت ثبت، فوضع على عينيه العدسات المقربة، ونظر مرة اخرى، وفي هذه المرة تأكد انه رجل غريق.

فقال النوخذة: أَمِلْ الشراع ميلانا يجعلنا نصل اليه بسرعة، فحملوه وأنقذوه وأخذوه معهم الى مسقط.

وبعد قليل، وصلت البغلة التي كان عليها الرجل الغريق، وكان الحزن واضحا على كل من فيها، بدليل انهم لم يرفعوا الأعلام كما هي العادة عند دخول الموانئ، ولم تسمع لهم دقات العرضة وغناؤها، كانت في الميناء سفن كويتية اخرى، وكلهم يعرف عن هذا الحادث، وعندما قربت السفينة من المرسى ذهب اليها بعض البحارة بسفن صغيرة وسلموا على من هم على متنها، وسألوهم: عسى ما شر؟ انتم لم تنشروا العلم ولم تقيموا العرضة، فما السبب؟ قالوا: كيف نعمل كل هذا ولنا احد اصحابنا فقدناه في البحر، وراح الى رحمة الله، قالوا لهم: من هو؟ فذكروا اسمه، وهنا قال المستقبلون: صاحبكم فلان موجود عندنا، فتقافزوا الى السفن الصغيرة وذهبوا اليه فرحين بنجاته شاكرين لنوخذة البغلة الذي أنقذه.

وهناك حكايات كثيرة مشابهة لما حدث لهذه السفينة واهلها، وذلك لأن طبيعة الرحلات وتباعد المسافات وكثرة السفن الراحلة والعائدة وتقلبات الاجواء من منطقة الى اخرى بانقلاب وجه البحر عندما تهب الرياح الشديدة فتترك وراءها كثيرا من المشكلات التي كثيرا ما يعاني ـ لوطأتها ـ رجال البحر من ابناء الكويت وهذا نموذج لها، ولو اراد احد المزيد من التفصيل فهناك في الكتاب حكايات كثيرة تدل على ذلك.

وهذه حكاية شاعر كويتي هو الخال ابراهيم سليمان الجراح، تخيل حوارا ومنازعة له مع قط شرس دأب على افتراس حمام المنزل الذي اجتهد الشاعر في تربيته والعناية به، ومن اجل ذلك فقد صار يترصد للقط ناويا القضاء عليه حتى يبعد الخطر عن بنات الهديل، ولكن القط كان متنبها الى هذه النوايا التي اعتبرها ـ من جانبه هو ـ شريرة، فصار يوجه الكلام الى الشاعر قائلا له: لم تهددني، وتوعدني بالأمر الذي نويته لي وهو امر مستحيل الحدوث، وترهبني مرة بالعصا واخرى بالسيف اليماني او الرمح المستطيل. ألم تدرك ان في فمي نابا حادا هو اشد مضاء من مضاء سيفك، ومخلابا فيه حتف من أومئ به إليه، انت ـ يا ابا خليل ـ تذكرني في كل يوم بما كنت تفعله في وقائعك ضد امثالي، وتذكر لي مصارعهم، وكأنك تظنني جهلا مثلهم. ثم يقول له:

أغاظك أن أكلت لكم حماما

فهلّا قلت هنّ قِرى النزيل

وضعتَ السمّ لي غدراً وهذا

لعجزك عن مبارزتي، دليلي

فدع عنك الغرور وخلّ بيني

وبين حمامكم ـ أبداً ـ سبيلي

ثم يمضي في ذكر انواع وألوان الحمائم اللاتي قد فتك بهن خلال الفترة الماضية، ويردد على الشاعر ذكر هجماته عليهن مما سيزيد الشاعر غيظا، لكن القط المعتد بنفسه يقول:

ألا لا تستهن بفعال مثلي

فلست ترى لحادثة مثيلي

يراقبني الحمام بكل خوف

فكم قد نال من فعلي الثقيل

وان افنيت ـ من غلّ ـ حياتي

فكم قط سيأتيهم بديلي

فهذه حكاية محكمة لها بداية، ونهاية يعبر فيها الشاعر بلسان القط دون ان يكون له دور في الرد عليه كما نلاحظ في كل الأبيات التي تحويها القصيدة التي جاءت متناسقة، وبألفاظ واضحة، وكان لابد وان تأتي بهذا الوضوح حتى يفهم القط مقالة الشاعر، ولكن الشاعر لم يقل له شيئا واكتفى بالعمل الذي رأى انه كفيل بتخليصه من مهلك حمام المنزل.

> > >بهذا نكون قد وصلنا الى نهاية المسامرة التي تضمنها هذا الفصل، ولعل في كل ما تقدم من اشارات ما يدل على اهمية هذا الموضوع الذي يتصل بالتراث الشعبي للبشر كافة، ثم انه ليدل على جهود ابناء وطننا في مجال حفظ تراث وطنهم واهلهم، وذلك بدليل تسجيله والحفاظ عليه.

وبالله التوفيق.

Advertisements
Advertisements