الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

آه يـا لبنـان.. كم سعدنا بك.. وكم شقينا بك.. بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

سيف الحموري - الكويت - الخميس 26 مايو 2022 08:56 مساءً - بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

لقد أسعدتنا في أيامك الماضية حين كنت كعبة القصاد والعيون بفضل ما فيك من حسن، وما لدى أهلك من طيبة وحسن خلق، وكرم وفادة لكل ضيف يحل بك.

لا ننسى رحلاتنا إليك ولا ننسى جبالك ووديانك وسهولك، ومياهك ومجالسك التي لا يملها أحد.

ولا أنسى ـ أنا شخصيا ـ أنني رزقت فيك بابني أوس ثم ابنتي آمنة، وهذا كاف لكي يرتبط ذهني بك وبأيامك الجميلة التي عشتها بين رباك.

ولقد شقينا الآن بما حل بك. فقد بدأت الديدان تنخر في جسمك الجميل منذ عام 1975 ـ كما يذكر أبناء الكويت ـ إلى أن تفاقم الأمر، ووصلت إلى ما وصلت إليه مما تردده وسائل الإعلام علينا صباح مساء.

ولولا محبتنا لك لما شعرنا بالشقاء من أجلك، ولا انشغلنا بما يأتينا عنك من أنباء مؤسفة.

نقول هذا ونحن نأمل أن يعود إليك صفاؤك، وأن تسترجع أيامك السالفة الهادئة، ولياليك المقمرة النيرة، وأن تعود كما كنت رمزا للأمان والسلام، وموئلا للفن والثقافة والعلم كما عهدناك من قبل.

أبدي ما تقدم وأمامي حديث يتعلق بلبنان.. لبنان الذي شاهده ـ من قبل ـ أناس سجلوا الصورة التي كان عليها، فكانت معجبة للغاية، ومن المهم أن نشير إلى اثنين من هؤلاء كانا من بلدين عربيين مختلفين، ولم يكن منهما لبناني واحد حتى يقال إنه إنما يشهد لوطنه. ومن هنا نبدأ:

الأستاذ المربي محمد حمد الفوزان من أوائل المدرسين الكويتيين، عرفته وأنا صغير أتلقى تعليمي الأولي في المدرسة الأحمدية، ثم في مدرسة المثنى، وكان هو مدرسا في المدرسة القبلية آنذاك، وسر معرفتي القديمة به أنه كان يسكن بالقرب من الحي الذي يسكنه أهلي، فأراه يوميا.

وكان صديقا مقربا لأخوالي وخاصة منهم الخال داود سليمان الجراح، والخال إبراهيم سليمان الجراح، وكانت له مكانة خاصة في نفسيهما لحسن خلقه، وتعلقه بأصحابه.

أذكر أنه كان متعلقا بلبنان، يزوره باستمرار، وكان كلما عاد من هناك أحضر معه بعض ما يلفت الأنظار من ألعاب لم نكن نراها في بلادنا آنذاك، فيقوم ـ بحسب عادة المربي وإحساسه ـ بعرضها لنا، وتعريفنا بها، فنرى السعادة مرتسمة على وجهه وهو يرانا مسرورين بذلك.

وكان إلى جانب ذلك كاتبا ينشر مقالات له في مجلة «البعثة» الكويتية. وقد بدأ في نشر هذه المقالات منذ العام 1947، وضمنها أنباء رحلاته في مختلف البلدان وخاصة لبنان الذي نشر عنه مقالين أحدهما بعنوان: «لبنان الجميل»، والآخر بعنوان: «قالوا تحب لبنان».

وكان المقال الأول هو أول مقال نشر له في المجلة المذكورة. أما المقال الثاني فقد قدمه للنشر فيها خلال عام 1952.

بدأ المقال الأول بقوله:

كنت جالسا في شرفة الفندق بمصيف «فالوغا» في ليلة صفا أديمها وطاب نسيمها، وابتسم بدرها لوادي حمانا الجميل، تنسكب أشعته الفضية على مشاهد الوادي الخلابة فتزيد في مفاتنه وسحر مناظره.. وعم الطبيعة سكون شامل، فلا تسمع إلا حفيف الأغصان وخرير الجداول، وإلا هذا الصوت الناعم المشجي يردد في سكون الليل أغنيته:

يا بدر السما العالي

تعال اسمع موالي

لبنانية تغني لك

مجد بلادي «بيحلالي»

قروية طروب فيها جمال بلادها أحبت هذه الطبيعة وما فيها من حسن وبهاء، فذاب هذا الافتتان وهذا الحب على حنجرتها الذهبية نغما حلوا يطرب السامعين، وقد لذت لي الجلسة الهادئة وطابت نفسي مما ترى من جمال الوادي العظيم، منظر قراه المتناثرة على ضفتيه بسقوفها الحمر في لجج من خضرة النبات الزاهية، وهذه المصابيح تلتمع أضواؤها من شرفات البيوت فتخالها نجوم السماء نزلت لتساهم في هذا الجمال البديع.. ولأشجار الصنوبر تحت ضوء القمر خضرة امتزجت بألوان تحار في وصفها وقد بدت ظلالها على صفحة الجدول المتدفق.

ولبنان بمشيئة الله أضاء النواحي العابسة من حياتي ببسمات جميلة، وأظل طريقها بظلال وارفة، فلا يعجبن القارئ العزيز إذا أفضت بحديثي عن لبنان، فما أريد إلا أن يشاركني ما أحسه نحوه من سابغ المودة، وعاطر الذكريات.

وأما باقي المقال فهو وصف شامل لبيروت وما فيها من أماكن تستحق الذكر بما في ذلك ساحة البرج وساحل البحر. ثم خرج بعد ذلك إلى الحديث عن أماسي لبنان فقال:

وأماسي لبنان ويالها من أماسي، صفحات من الفن والإلهام، يسجلها البدر المنير فوق المروج، وبين الرياض الهاجعة على الخصب والخير العميم.. إن كل ليلة مقمرة في الجبل قصيدة محكمة القوافي، نفحة النسيم البليل، وهمسة الجدول المتدفق، وأنشودة الساقية الطروب، تشيع فيك روحا جديدة من النشاط والمرح والانطلاق.. فما أسعدني وجمع من أصدقاء أعزاء نجوب البساتين، ونداعب الرياحين وتقول الأفانين، فكلنا في الميدان شعراء، ومن فاته التعبير لم يفته صفاء التفكير.. ما أحلى السمر في ذاك الجناب، وما أخف الدعاب في ذاك الرحاب، وما ألذ الأحاديث الفكهة بين الأصحاب.

٭٭٭

رحم الله الأستاذ محمد حمد الفوزان، فقد أعطى لبنان حقه، وقربه إلى الناس في وقت كانت بلادنا فيه تكاد أن تكون بعيدة عن كثير من بلدان العرب، وكان وصفه معبرا عن إعجاب شديد، بأسلوب في منتهى الرقة والعذوبة والجمال.

لقد توفي هذا الأستاذ الفاضل بعد أن خاض مأساة قضت على الأنس الذي أحس به في تلك الأيام اللبنانية التي كتب عنها، فقد فجع بفقد ولديه شهيدين إثر الغزو العراقي الغاشم لبلادنا، ونحن نرجو الله عز وجل أن يسبغ على الأب وولديه عظيم الرحمة، وأن يسكنهم الجنة خالدين فيها.

هذا وقبل الانتهاء من الحديث عن هذا الرجل الكريم، فإن من المهم أن نشير إلى ما يدل على ما ذكرناه آنفا عن صلته بالشاعرين داود سليمان الجراح، وإبراهيم سليمان الجراح، إذ لابد من إيراد الدليل على هذه الصلة.

ومما نجده في شعر الخال داود سليمان الجراح قصيدة أرسلها إلى صديقه محمد الفوزان ردا على رسالة أتته منه حين كان في لبنان، كان منها قوله:

وصلت رسالتك التي دبجتها

فوضعت صفحتها على الأحداق

حبا وتقديرا لمن قد خطها

فأتت تميس بلونها البراق

ثم يتساءل:

أسباك لبنان الجميل بجوه

وجنانه، وبمائه الرقراق

حتى غدوت متيما بربوعه

لك في المصيف تواصل وتلاقيومما يدل على الاتصال بين الرجلين أبيات أرسلها الشاعر إلى صديقه بمناسبة زواجه مطلعها:

بلبل الأنس في زواجك غرد

فهنيئا نلت المنى يا محمد

أنا في غبطة وجل مرادي

أن تنال الذي تريد وأزيد

أما الخال الشاعر إبراهيم سليمان الجراح فكانت له إلى الأستاذ محمد الفوزان رسالة من نوع آخر.

فقد كانت الكويت في عام 1961 تعاني من الأذى الذي أثاره عليها الهالك عبدالكريم قاسم.

وكان الوقت صيفا وكثير من أبناء الوطن في مصايف لبنان، فكتب الشاعر يدعوهم إلى العودة ووجهها إلى صديقة كما ذكرنا، يقول:

لبنان مالك ويلي منك لبنان

بان الرفاق ولولا انت ما بانوا

في كل عام الى مغناك أفئدة

تهوي إليه وإخوان وخلان

فتنت ويحك يا لبنان اخوتنا

أهكذا أنت يا لبنان فتان

ثم يدعو المسافرين إلى العودة من أجل الالتفاف حول الوطن والدفاع عنه فيقول:

فشمروا يا فداكم كل غانية

ما للتصابي بهذا الظرف ميدان

قد كان ذاك وما كان العراق لنا

خصما ولا كان إبعاد وعدوان

دعوا التريث فالأوطان ليس لها

إلا بأبنائها عز وسلطان

٭٭٭

وإذا تحدثنا عن لبنان فلابد وأن نورد شيئا مما قيل فيه من شعر وهو كثير، لكننا سنختار هنا قصيدة قالها أمير الشعراء أحمد شوقي في إحدى زياراته لهذا البلد العربي وهي التي تبدأ بقوله:

السحر في سود العيون لقيته

والبابلي بلحظهن سقيته

الفاترات وما فترن رماية

بمسدد بين الضلوع مبيته

ويمضي بها إلى الحديث عن الفاتنات الآسرات اللاتي أصبنه في الصميم، ثم يصف مغامرة له في مدينة بكيفا اللبنانية قائلا:

وأغن أكحل من مها بكفيه

علقت محاجره دمي وعلقته

لبنان دارته وفيه كناسه

بين القنا الخطار خط نحيته

وبعد أن استقر الموقف بينهما سألته الفاتنة بدلال:

قالت ترى نجم البيان فقلت بل

أفق البيان بأرضكم يممته

وانطلق في الحديث عن لبنان وأثره في الثقافة العربية المعاصرة قائلا:

بلغ السها بشموسه وبدوره

لبنان وانتظم المشارق صيته

من كل عالي القدر من أعلامه

تتهلل الفصحى إذا سميته

حامي الحقيقة لا القديم يؤوده

حفظا ولا طلب الجديد يفوته

وعلى المشيد الفخم من آثاره

خلق يبين جلاله وثبوته

في كل رابية وكل قرارة

تبر القرائح في التراب لمحته

وإلى جانب كل ذلك، فإنه يرى لبنان في أعلى مكان:

هو ذروة في الحسم غير مرومة

وذرا البراعة والحجى بيروته

ملك الهضاب الشم سلطان الربى

هام السحاب عروشه وتخوتهأما ختام القصيدة فهو من حق زعماء ذلك البلد الجميل، إذ قال الشاعر فيهم:

زعماء لبنان وأهل نديه

لبنان في ناديكم عظمته

قد زادني إقبالكم وقبولكم

شرفا على الشرف الذي أوليته

٭٭٭

وقبل اختتام هذه المسامرة، فإن من المهم أن نعود مرة أخرى إلى ما جاء في الغناء الكويتي من أبيات قصيدة أمير الشعراء التي مر بنا عرضها. ذلك أن بعض أبياتها ذات الصفة الغزلية قد لفتت أنظار الفنانين الكويتيين فسعوا إلى أن تكون ضمن تراثهم.

فإن أغنية «السحر في سود العيون لقيته» أغنية كويتية مشهورة، اختار الأبيات التي تناسب الغناء من القصيدة الأم فنان قدير هو الأستاذ أحمد الزنجباري، ولحنها على نمط الصوت المعروف، ثم غناها الفنان سعود الراشد، فنالت استحسان السامعين لجودة اللحن، ولأن الأبيات المختارة للغناء جاءت متسقة في معانيها وألفاظها بحيث لا يحس المستمع إليها بأي جفوة، أو تنافر، لأن الذي اختارها كان على دراية تامة بالشعر، وهو من معتادي تلحين القصائد، ولقد أطلق على هذا اللحن اسم: الصوت العربي الحديث، وذلك لتميزه، ولأن ملحنه ومغنيه قد أبدعا في تنفيذه، دعك من جودة الشعر، فيكفي أنه من إبداع أمير الشعراء أحمد شوقي الذي عبر من خلال قصيدته عن قمة شاعريته، وعما يستحقه لبنان.

وقد شهد الفنان القدير الأستاذ غنام الديكان لهذا الصوت بالتميز، واعتبره ظاهرة بديعة للغناء الكويتي المتطور، فقال في كتابه: «الإيقاعات الكويتية»: بعد أن أشاد بهذا الصوت إن هذا الملحن الفذ قد ابتدع طريقة حديثة في تلحين الصوت، هي غاية في التطريب، ودقة التعبير.

وبهذا نصل إلى نهاية مسامرتنا هذه على أمل المواصلة في قادم الأيام إن شاء الله.

Advertisements
Advertisements